حتى لا تتكرر حيرتي في مكتب التصويت !

أربعاء, 25/08/2021 - 21:59
صورة تعبيرية

بقلم /  أم محمد

-------‐-------------- 
كانت  الشمس ترسل أشعتها الذهبية على حي من أحياء نواكشوط الشمالية مساء يوم السبت 22 يونيو 2019 ، ولم يكن يفصل عن انتهاء الوقت المخصص للتصويت إلا عشر دقائق، و رغم ذلك كنت أمشي بخطوات متثاقلة لأدلي بصوتي لمرشح لم أحدده بعد، في حين كانت ذاكرتي تستحضر وقفات مختلفة من التاريخ السياسي للبلد..
الذاكرة  وحدها منحها الله قدرة غريبة  على استرجاع واختصار الزمن بكل تفاصيله، ففي لحظات معدودة ذكرتني  بالرئيس المؤسس المختار ولد داداه وجيل التأسيس وكيف ضحى من أجل بناء دولة تقوم على أساس الشرف ، والإخاء، والعدالة ..
 ذكرتني بنضال الكادحين، والقوميين وما تحمَّلُوه من تنكيل وتعذيب في سبيل حياة أفضل لأبناء هذا الوطن ، ذكرتني بالانقلابات المتتالية ...واللجان العسكرية للإنقاذ الوطني ..وحركات التصحيح، ذكرتني ببداية التجربة الديمقراطية و أيام معاوية... والانقلاب عليه ...والكتيبة البرلمانية وسعيها  للإطاحة بأول رئيس مدني منتخب ، ذكرتني بالمأمورية الثالثة والمطالبة بتأسيس مملكة... وذكرتني أيضا كم هو سخي هذا  المواطن  المسكين، فكلما جلدته الحكومات المتعاقبة في الزمن الأصفر كلما تشبث بها وأعلن الولاء وتَرَهْبنَ في الطاعة العمياء..
أخيرا رجعت بي الذاكرة إلى أول انتخابات رئاسية في البلد ، وذلك المهرجان الذي غَنَّتْ فيه المعلومة بنت الميداح   :   "أيدينا فيدك يا قائدنا لقبنا لك اموحد ذا الشعب " ..كنت يومها شابة أقرب للمراهقة، قادمة من مدينة آلاك، مدينة التنوع والجمال ...و واسطة عقد المدائن... كنت متفائلة وطموحة ومتحمسة، أحلم بوطن متقدم، ومزدهر، تسود فيه قيم العدالة الاجتماعية، بل أحلم أكثر من ذلك بأمة عربية واحدة... ودين إسلامي متمكن... وقارة إفريقية متصالحة مع ذاتها...كانت لديَّ نظرة شمولية، و لم أكن أبدا  أتوقف  عند الصراعات الإيديولوجية الضيِّقة، أو النعرات العرقية، أو الفئوية، أو الجهوية، أو القبلية...كان حلمي أجمل... وتفاؤلي أكبر... واندفاعي أقوى   ..وتحمسي أصدق ..
لم يقطع تفكيري إلا صوت الجندي الواقف  بباب ثانوية توجنين وهو يبتسم و يقول   بنبرة مرحة اسرعي ..اسرعي... لم يبق إلا ثلاث دقائق وسينتهي التصويت !
 بادلته نفس الابتسامة شفقة عليه، فلعله - رغم كل الظروف-  مازال يمتلك بقية أمل، ولا يُدرك  شعوري بالإحباط واليأس والخيبة، ولم يتذوق مثلي  طعم  المرارة التي أتجرعها بعد كل انتخابات رئاسية، حين أكتشف أن تلك البرامج الجميلة و الوعود الرائعة مجرد حبر على ورق...
   أيها الجندي البريء ! ألا تعرف أنني خلال انتخابات رئاسية عديدة  منحت  صوتي  في نفس الثانوية لمترشحين مختلفين من حيث  البرامج  والانتماءات السياسية، وفي كل مرة أشعر  بخيبة الأمل وأنا  أرى نفس السيناريو يتكرر بعد تنصيب  الرئيس، ثروات وطن تُنهب، وتعليم  يتراجع إلى الأسوأ، و قطاع صحة يتدهور، و أمن مُهدد، وبُنى تحتية متهالكة  ... وواقع اقتصادي متردي...في كل مرة أرى جذور القيم الجميلة والمعاني السامية تُقتلع  شيئا فشيئا ...فيختفي الشعور بالوطنية، و التضحية، والصدق، والوفاء، والتآخي، والإيثار ، ويسود النفاق، والتملق، والجشع، والفساد، والعنصرية ، و التباهي  بالثراء الفاحش مجهول المصدر   ..
     دخلت مكتب التصويت، فبدأ رئيس اللجنة يدقق النظر في بطاقة تعريفي ..كنت أتمنى لو منعني من التصويت، فأنا لم أعرف حتى الآن لمن سأمنح  صوتي  ..!
بعد قليل ناولني بطاقة الناخب ومعها ورقة التصويت ، دخلت وراء الستار وبسطت الورقة على الطاولة، و بدأت أتساءل في صمت ترى أيهم الأصلح لقيادة هذا البلد ؟ 
أيهم يستطيع أن يعيد لي حلمي الجميل ببناء دولة يجد فيها كل مواطن نفسه ؟ أيهم يستطيع أن يحقق العدالة الاجتماعية ويعزز السلم الأهلي...أيهم يستطيع أن يوفر الأمن للمواطن ويحمي ممتلكاته؟ أيهم يستطيع أن يكون صارما في  وجه المفسدين الذين  ينهبون  ثروات هذا الشعب؟ أيهم يستطيع أن يُصلح التعليم ويُعيد الاعتبار للمدارس العمومية ؟ أيهم يستطيع أن يرتقي بقطاع الصحة ويمنع تزوير الأدوية ؟ أيهم يستطيع ...وأيهم يستطيع ...وأيهم يستطيع ...
كم أحس بالخجل والغيرة كلما زرت إحدى الدول المجاورة وقارنت واقعها بواقع بلدي رغم أننا نمتلك من الثروات الطبيعية ما لا تمتلكه هذه الدول .. و رغم أننا أقل منها من حيث  نسبة السكان !
حاولت أن أستعيد برامج كل هؤلاء فلعلني أتذكر وعدا أو التزاما من أحدهم أحتج به عندما يحاكمني ضميري في المستقبل ويسائلني لما انتخبتيه يا امرأة !  لم تسعفني ذاكرتي السياسية التي اقتنعتْ منذ زمن بعيد  أن البرامج الرئاسية مجرد كذبة كبرى، وغاية تبرر الوسيلة..
فجأة تذكرت  ابن أختي الذي لم يتجاوز عمره ثلاث سنوات عندما قال  إنه يحب  مرشحا معينا لأنه  صديق والده، وسيصوت له ..فلم أتردد في منحه صوتي نيابة عنه  ...! وما أصعب أن تُعطي صوتك لمرشح بناء على لحظة عاطفية عابرة اتجاه طفل صغير وأنت من كنت تحلم بواقع تنموي أفضل لوطنك، وتحمل همَّ و ألم شعب أنهكته الظروف الصعبة، والسنين العجاف ، وتتجرع كل لحظة مرارة واقع التعليم ...وواقع الصحة ...وواقع الأمن ! إنه قمة الإحساس بخيبة الأمل والإحباط واليأس والقنوط..
خرجت من الثانوية بنفس الشعور الذي دخلت به ..وبادلت الجندي ابتسامته المتفائلة بابتسامة حزينة هذه المرة ...
بعد أيام أُعلنت النتائج ،ولم يفز المرشح الذي منحته صوتي،  ولم أتأثر لذلك مطلقا ..وظللت أراقب المشهد  من خارج الدائرة السياسية، إذ لا أنتمي لأي حزب، ولا تكتل، ولا جمعية، ولا مبادرة، ولا نادي، مما يسمح لي بالحياد والموضوعية في نظرتي للأشياء  وحكمي على الأمور .
اليوم و بعد سنتين من انتخاب الرئيس محمد الشيخ محمد أحمد الغزواني حاولت أن أجري تقييما سريعا لهذه الفترة رغم قصرها بمقياس الحكم..
ولا أكتمكم أنني كنت أتمنى لو مسح  رئيس الجمهورية  الطاولة السياسية على الطريقة الديكارتية، و أعطى الفرصة لوجوه جديدة تمتلك صفحات بيضاء  لم تكتب عليها التجربة السياسية في العقود الأخيرة، لعلها تكون أكثر شعورا بالوطنية، و أقدر على العطاء، و حلحلة المشاكل الاقتصادية والأمنية، وتغيير واقع التعليم المخجل، وترقية قطاع الصحة ..  
 إلاأنني رغم ذلك منصفة بعض الشيء،  و أدرك شبه استحالة تصحيح الاختلالات البنيوية المتراكمة منذ عقود في مختلف القطاعات خلال فترة وجيزة، خاصة في هذه الظرفية الدولية الصعبة ، وأعرف أن التصحيح والتغيير يحتاجان لفترة أطول ولابد أن يتم ذلك أيضا بشكل تدريجي...
ولذا فإن بعض الخطوط السياسية العريضة التي تبنَّاها  رئيس الجمهورية  مثل  محاولته الجادة لإعادة المعنى الحقيقي للديمقراطية،  وتقبُّل أصحاب الرأي الآخر، و تمكينهم من التعبير عن وجهات نظرهم، والعمل على إشراكهم في الهَمِّ الوطني.
و ما أبْدَى من رغبة صادقة في توفير جو الهدوء و السكينة، وإعادة الثقة بين الحاكم والمحكوم، و إعطاء المسؤولية الكاملة للحكومة للقيام بواجبها، و فصل الأجهزة وتركها تمارس أعمالها بدون تدخل من السلطة التنفيذية، والمسحة الأخلاقية التي بدأت تطبع الممارسة السياسية ، كل ذلك كان كافيا ليمنحني بعض الأمل والتفاؤل يحول دون تكرار حيرتي في مكتب التصويت خلال الانتخابات القادمة.