اليتم السياسي العربي، والتيه بين تركيا وإيران، ... العروبة أولاً

جمعة, 19/06/2020 - 22:51

د. محمد عمر غرس الله – باحث ليبي مقيم في بريطانيا

بعدما تم إستهداف الدولة القائدة للعمل العربي (مصر) وإزاحتها عن قيادة الإرادة السياسية العربية، وبعدما تم تشويه كل ما يتعلق بــ(عبد الناصر) طوال خمسين عاماً، وفي ذلك تم إستهداف الدول والأنظمة السياسية التي كانت تحاول أن تكون في مسار إرداة الإستقلال العربي بعيداً عن الإستعمار القديم، والتي وصل للسلطة فيها تنوع التيارات القومية والعروبية، تفتقد الأمة العربية - اليوم - رافعة العمل العربي، والإستناد إلى الإقليم القاعدة الضرورة الحيوية للعمل العربي، حيث كانت قد لعبت القاهرة مركزاً حيوياً لحركة التحرر العربي، ثم تلتها رفيقاتها بغداد ودمشق وطرابلس، والجزائر وصنعاء، التي وصل للسلطة فيها تنوع التيارات القومية والعروبة، هذه الدول التي كانت تحاول أن تكون في مسار إرادة الاستقلال العربي وبعيداً عن نفوذ الإستعمار والارتباط به والدوران في فلكه، حيث تفتقد الأمة العربية اليوم، الدولة رافعة العمل العربي، والإقليم القاعدة الضرورة الحيوية للعمل العربي (كما يصفه المفكر نديم البيطار).

إننا نرى الأمة اليوم مستباحة، لفقدانها المشروع الذي تم التحالف عليه ومهاجمته وتشويهه، وحرقه معنوياً، وهذا المشروع يفتقد اليوم أيضاً الدولة القاعدة (الرافعة)، بفعل حروب دول الهيمنة وأدواتها في المنطقة، هذا المشروع العروبي كانت قد أضرت به أيضاً معاركه البينية القاتلة وخصوماته الإنفعالية، والتي وصلت إلى حد، أن قاتل بعض القوميين العرب في معارك ليست واجبة، وقاتلوا مع شوارزكزف على العراق عام 1990م، ثم مع عام 2011  م يقاتلون صفاً واحداً مع الناتو يدا بيد، ومع التنظيم العالمي للإخوان المسلمين، والقاعدة وداعش، والجماعات الإسلامية لإسقاط ليبيا، وتدمير سوريا، وتحالف البعض منهم مع الحرب الظالمة على اليمن، وهم بتحالفون اليوم مع تركيا على سوريا وليبيا وفي استهدافها مصر، ويصمتون على تمدد الأذرع التركية في المغرب العربي

اليوم، وبسبب التيه واليتم السياسي، تتقسم قوى الأمة بين (العباءة الإيرانية)، و(العباءة التركية)، العرب الغساسنة والعرب المناذرة الجدد، وها هي إيران اليوم تناصر تركيا في هيمنتها على ليبيا، بعدما ناصر تركيا عرب آخرون وجيران وأشقاء، يعقدون التحالفات مع أردوغان عشية إعلانه ليبيا إرثا عثمانيا وإرسال قوات تركية للحرب على شعبها، وظهر أشقاء يأتمرون بأمره، بل ويتبجحون بأن تركيا هي التي حررت العرب (كما يقول راشد الغنوشي رئيس البرلمان التونسي ورئيس حزب النهضة).

إنه التيه، واليتم السياسي الذي وصلت له الإرادة السياسية العربية ووقعت فيه اليوم، فلا رؤية عربية ومشروع لمقاومة ما يجري، والتنظيمات التاريخية غارقة في وهم كيل المديح للماضي وجعل ذلك برنامج عمل، وغارقة في خصوماتها البينية التاريخية الناتجة عن صراعات الحكم والسلطة وخصومات الحكام.

وفي هذا اليتم والتيه، ظهرت حالة مستفحلة ضد العرب والعربية والعروبة، فبمجرد أن تكتب جملة (الأمة العربية) أو تذكر (القومية العربية)، تنبري لك الخلايا النائمة، تترك الداعي والمدعي وكل ما يجري، وتصب جام غضبها عليك وعلى العروبة والأمة والعربية، تنكرها وتجرمها وترفضها، وكأن أردوغان التركي ليس قوميا وكمالياً تركياً، وكأن إيران ليست أمة لها مركزيتها تبحث عن مصالحها وتعبر عنها بإرادتها السياسية.

إن ما يجري - في أمتنا اليوم - تجليات ونتيجة لحرب شعواء على عواصم الفعل العربي طوال سبعين عاماً من الإستقلال ومحاولات إقامة إرادة عربية موحدة،

فالدول والأنظمة والعواصم العربية التي ناصبت عبد الناصر العداء - وشنت عليه وعلى تيار العروبيين الحروب تاريخياً، والتي عملت بمعية الغرب ووفق إستراتيجياته، وساهمت في تدمير سوريا وتشريد شعبها وعملت على تدمير ليبيا وإسقاطها ونهبها، والتي تشن للعام الخامس حربا ظالمة على الشعب اليمني - تقف اليوم عاجزة أما تركيا وإيران، مبحوحة ضعيفة تراقب طائرات تركيا تسرح وتمرح من شمال العراق الي حدود ليبيا الغربية.

لقد أُكلت هذه الدول والأنظمة يوم أكل الثور الأبيض، لم تستطع اليوم أن تقوم بالدور الذي كانت تدعيه وتقول إنها أولى به، هي أعجز من أن تقدم خطابا سياسيا وفكريا أو تظهير مشروع عربي الإرادة، وهي اليوم أقل من أن تدير إرادة سياسية مستمدة من الإرادة العربية ومركزيتها القومية يلتف حولها العرب، وهي أقل بكثير من أن تعبر عن مصالح الأمة، وتكون صوتها وسلاحها، وكرامتها، فهي مرتهنة بيد الغرب نفط وأرصدة وإرادة سياسية، ومستباحة الجغرافيا.

وهكذا نتيجة لفقدان العرب   كأمة - النظام السياسي القائد والرافد للعمل العربي والمشروع المدرك، حيث تم تجريد الأمة من هذا العامل الحيوي، حتى صارت الأمة بين خيارين، إما تركيا، أو إيران،

 حتى المقاومة لم تعد تنهل من مداها العربي، بسبب غياب المشروع، والإقليم القاعدة، والعاصمة العربية الملاذ، وبسبب غياب الدولة التي تكون مركز انطلاق للعمل العربي وحاضنته، كما فعلت القاهرة طول منتصف القرن الماضي، وكما فعلت بقية عواصم التيار العروبي في طرابلس ودمشق وبغداد.

كما تفتقد الأمة اليوم، القدرة على المبادرة والمبادأة في التنظيم للعمل العربي لاستعادة مركزية إرادة المقاومة ببعده العربي (بقت التنظيمات حبيسة الماضي وما علق بالمربعات الحزبية والتنظيمية القديمة التي أُستهلكت)، رغم وضوح ما يجري ومجاهرة أعداء الأمة بمشروعهم، وإستئساد قوى الهيمنة الدولة، وأذرعها وأدواتها من جماعات إسلاموية بتنوعاتها من إخوان مسلمين وداعش، وقاعدة، وجماعات قبلية وشعوبية، التي تسيطر على عواصم عربية اليوم، تحت إشراف المخابرات الدولية ومبعوثي الأمم المتحدة.

إنه اليُتم والتيه،الفردي، واليُتم والتيه الحزبي والتنظيمي، حيث لم تنبري النخب لمواجهة الواقع بالتنظيم عربياً بآليات جديدة تتعامل مع الواقع الجديد وتواجه تحدياته، وتتعامل مع المستجد من حروب الجيل الرابع،

هذه الحرب الجديدة التي جعلت من المواطن العربي جنديا في جيش العدو يتقدم صفوف الغزاة (مطلينين وباندا و زواف) جدد، جنود يقاتلون أهاليهم و إخوتهم، ويمسحون ويفتحون الطريق أمام هيمنة الدول الأخرى وتحقيق مصالحها.

إنها دعوة لقوى الأمة العربية، الحية والفاعلة للتنادي، والتنظم، وتجاوز المربعات القديمة، واعتبارها إرثا يستفاد منه فكرا وتجربة سياسية ونضالية، وهي دعوة ضرورة ومُلحة لبناء وتنظيم أشكال مقاومة جديدة عصرية تتعامل مع عصر الهيمنة الجديد وفق التحدي الوقتي اليوم (بكل أنواع أسلحته الفكرية والإعلامية والقتالية)، بالإستفادة من التجارب السابقة التي يجب التحرر من سلبياتها وخصوماتها وتقاطعاتها، والتحرر مما علق بها من جمود وتخشب، وتطوير آليات النضال والكفاح، بما يتناسب والعصر والمرحلة والتحدي الذي يواجه الأُمة اليوم.

إننا، كحركة تحرر عربي، قادرون على ذلك، والأمة لم تعدم الرجال الأفذاذ الأذكياء المخلصين المدركين، كما فعل رجال الأمة في بداية مواجهة الاستعمار الأوروبي، وكما فعل الرجال منتصف القرن الماضي، أولئك الرجال الذين قدموا العمل الفكري والتنظيمي، وقاوموا، حتى تم الاستقلال وتم إجلاء الاستعمار واجتثاثه وطرد قواعده العسكرية، فأمموا النفط وقناة السويس، وطردوا الغزاة والمستوطنين، بل وأجبروا هذا الإستعمار على الإعتذار، وتقبيل يد ابن الشهيد الشيخ المجاهد عمر المختار،

الرجال الذين تنظموا وأداروا معركة طرد فرنسا من الجزائر بعد إحتلال ظالم دام 133 سنة، الرجال الذين فاجأوا القواعد الأمريكية والبريطانية والفرنسية، الرجال الذين فاجأوا الأنظمة العربية النائمة في أحضان وزارات المستعمرات الأُوروبية، وقوضوها.

إنها دعوة - لحركة التحرر العربي -  للعمل بطريقة جديدة وتمثل الحالة النضالية في زمنها ووقتها ويومها بالفعل المطلوب والمناسب والمكافيئ، فالتنظيمات القديمة أدت ما عليها، واستنفذت مداها، وهي لها ظروفها، وعلينا - كحركة تحرر عربي - أن نبقيها إرثا وتجربة يستفاد منها ونتعلم منها، وعلينا اليوم أن نتحرر مما علق بها مع الزمن الذي استهلكها وحول نضالها لمجرد حنين للماضي ونشر للصور والخطابات،

وعلينا اليوم كحركة تحرر عربي واحدة في إطار الأمة العربية، أن ننتقل لطور جديد من التنظم، والتنظيم وأسلوب العمل والفعل، علينا أن نبني تصورنا الجديد للمقاومة الفكرية والسياسية من مخاض واقعنا اليوم وما يجري، وعلينا أيضاً أن  نبني ونؤسس تصورنا أيضا حتى للحالة القتالية ونوع المقاومة وطرقها، وعلينا أن نتحرر من قيود تنظيماتنا القديمة التي ظهرت وعملت في ظروف مختلفة، ووجب تجاوزها، والانتقال لطور تنظيمي جديد يتناسب مع ما يجري اليوم.

إننا - كحركة تحرر عربي - بحاجة لنوع جديد من الحيوية والتنظيم والعمل، لمواجهة المستجد التاريخي، الذي جد علينا كحلقة جديدة من حلقات الاستعمار الجديد، فها هي تركيا تسرح وتمرح من العراق حتى طرابلس الغرب في ليبيا، وها هي القواعد الأجنبية تبنى على أرضنا من جديد جهاراً نهاراً، وها هي الوصاية والتدخل الأجنبي والهيمنة، وها هي المهانة تلحق بنا حتى تم وصفنا بأننا إرث للإمبراطوريات التي انهارت على الأشهاد.

اللهم أشهد أللهم قد بلغت ..

للمزيد في هذا الموضوع، أنظر مقالي: (في إنتظار المجهول: بنيوية العجز ووهم النضال بالنوستالجيا)