رمضان بين زمنين .

سبت, 09/03/2024 - 20:28

لا شك أن رمضان هو شهر مبارك و مناسبة رائعة للالتزام بالعبادة ووسيلة مشروعة للتقرب إلى الله و تقوية الإيمان به والنيل من مرضاته.

والتصالح مع الذات ومحاسبة النفس الأمارة و إحياء القلب و حفظ الجوارح و التركيز علي الجانب الروحي للحياة.

فإلي جانب تصحيح المسار الشخصي و التوجه نحو الله يشكل شهر رمضان فرصة كبيرة لتعزيز روح التآخي و التسامح بين الناس وإشاعة ثقافة التكافل و التآزر.

كما أنه مظهر عملي للمساواة الكاملة و إذابة الفوارق حيث أن الصيام يشترك فيه الغني والفقير على حد سواء في الشعور و الإحساس بالجوع طيلة فترة الصوم بشكل متساو.

فعلي العموم يشكل رمضان فرصة لترسيخ العديد من القيم الإنسانية الإسلامية العظيمة ينبغي اكتسابها و التحلي بها و غرسها في نفوس أبناء المجتمع.

بالإضافة إلي ما سبق فإن الصيام يمكن أن يساعد في السيطرة علي الشهوات الجسدية و النفسية و هو يعد بالتالي فرصة ثمينة للتحكم في النفس و تحسين القدرة علي التحمل والتحكم في الرغبات الشخصية و تعزيز الإرادة القوية لمواصلة السير علي الطريق الصحيح.

ما ميز رمضان قديما هو بساطة الحياة و تواضعها مع ضعف الوسائل وقلة الإمكانيات و قساوة الظروف،  رغم ذلك كله كان مجتمع أمس أكثر ألفة ومحبة و تقاربا وتماسكا بين الأهل و الجيران.

فاللقمة رغم بساطتها كانت مشتركة بين الجميع، ولعل هذا ما زاد من الترابط الاجتماعي حينها.

فمائدة الإفطار كثيرا ما تقتصر في الغالب علي صنف واحد يعتمد المنتوج المحلي كالحبوب و لتمور و اللحوم والألبان وغيرها.

فمن خصوصية هذا الشهر الكريم هو قيام الليل وصلاة التراويح والتهجد والإكثار من قراءة القرآن وتدبر آياته، سهرات ليلية تطبعها العفة و نقاء السريرة.

أما غوث الملهوث و المحتاج فتلك سمة ذلك الزمن الجميل لكنها الأميز في رمضان .

في حين اعتاد الموريتانيون قديما، بالتزامن مع مواعيد الإفطار عبر أثير الإذاعة الوطنية قبل وبعيد ظهور الإعلام المرئي ( التلفزة الموريتانية )، الاستماع إلى أحاديث الإفطار بصوت فضيلة الشيخ محمد محفوظ رحمه الله الذي ألفناها سنين خلت من خلال دعواته الرمضانية المأثورة: ( الحمد لله، اللهم لك صمت وعلى رزقك أفطرت فاغفر لي ما قدمت و ما أخرت، ذهب الظمأ وابتلت العروق وثبت الأجر إن شاء الله، اللهم بك نمسي و بك نصبح وبك نحيا وبك نموت وإليك المصير.

اللهم رب السموات السبع و رب العرش العظيم ربنا و رب كل شيء منزل التوراة والإنجيل و الفرقان، فالق الحب والنوى أعوذ بك من شر كل شيء أنت آخذ بناصيته .

أنت الأول فليس قبلك شيء و أنت الآخر فليس بعدك شيء و أنت الظاهر فليس فوقك شيء و أنت الباطن فليس دونك شيء اقض عنا الدين و اغننا من الفقر.

يا من لا تراه العيون ولا تخالطه الظنون ولا يصفه الواصفون  لا تغيره الحوادث و لا يرى الدوائر و يعلم مثاقيل الجبال و مكاييل البحار وعدد قطر الأمطار وعدد ورق الأشجار وعدد ما أظلم عليه الليل و أشرق عليه النهار و لا تواري منه سماء سماء ولا أرض أرضا و لا بحر ما في قعره و لا جبل ما في وعره اجعل خير أعمالنا خواتيمها و خير أيامنا يوم نلقاك فيه و أنت راض عنا) آمين .

نغتم فرصة هذا الشهر المبارك العظيم للدعاء له والترحم علي روحه الطاهرة تثمينا لما قدمه من عمل صالح للبلاد و العباد .

أما عن رمضان الحاضر الذي لا يخلو من تعقيدات الحياة رغم الطفرة النوعية .

نجد أن الكثير من العادات و التقاليد قد اندثرت و تلاشت معها أكلات شعبية بسيطة كانت تتزين بها الموائد الرمضانية قديما.

لتحل معها أطباق عربية و إفريقية دخيلة علي المجتمع من قبيل المكسرات و الحلويات و المحاشي كالسنبوسة و البطبوط واكريب و أصناف الشربة و الطاجنة و العصائر الحديثة ..... ألخ، حيث أصبح التباهي بالمعروض أهم من اللمة و شعور الأنس بها .

فرمضان اليوم تبدلت فيه الأعراف والتقاليد في ضوء تحولات اجتماعية كبري شهدها المجتمع نتيجة لعولمة عارمة اكتسحت العالم و غزت البيوت واستباحت الأعراض و الخصوصيات و تراجعت معها القيم و الثوابت الدينية و الوطنية .

في انتظار طمأنينة مفقودة يبحث عنها الجميع في زمن امتلأ بالخوف من المجهول، من مخاطر التواطؤ مع الإتحاد الأوروبي الماكر في إطار اتفاق شراكة مريب بشأن وخصوص مهاجرين أفارقة غير شرعيين و احتمال فرضية إيوائهم وتوطينهم، مما حرك و أثار غضب الشارع الموريتاني لما يشكل ذلك من خطر علي الأمن القومي الوطني، رغم التطمينات التي أرسلتها السلطات.

ومضامين البيان الختامي الصادر عقب الاجتماع الموسع بين الطرف الموريتاني والأوروبي في نواكشوط الذي تطرق لمجالات اقتصادية دبلوماسية أمنية كما شمل قضايا الهجرة غير شرعية نحو أوروبا .

إضافة إلي تصريحات وزير الاقتصاد التي تؤكد  أن موريتانيا لن تتحول إطلاقا إلي وطن بديل للمهاجرين غير النظاميين.

بينما يظل الخوف قائما في ظل ما تشهده الساحة الوطنية عبر وسائل التواصل الاجتماعي ( الإعلام البديل ) والملاذ الآمن للتطرف من تنامي خطابات الكراهية و العنصرية و التحريض علي العنف و إثارة النعرات و التطاول علي هيبة الدولة و السب و النيل من أعراض الآخرين وصل لدرجة الاحتكام إلي العدالة في ظل التشهير و التلاسن وتبادل الشتائم بين بعض أطراف قادة الرأي السياسي المعارض عبر المنابر الإعلامية و داخل الدوائر الحكومية و أمام الشركاء الدوليين

إذ يجمع بعض المراقبين للشان الوطني أن هذا التوجه العنصري مرده هامش الحرية  الحاصل على مستوي التسامح والتساهل و التراخي في تطبيق القانون.

إضافة إلي عجز وفشل دعاة الفتن في المتاجرة بالقضايا الوطنية.

فالفتنة نائمة لعن الله من أيقظها.

في حين يأتي الخوف دائما من اتساع دائرة الفساد و تدوير المفسدين و الإفلات من المساءلة و العقاب و تكريس النفاق السياسي و تقويض مفهوم الدولة، حيث أن ظاهرة التملق السياسي والتمظهر بولاءات كاذبة تؤدي إلي انعدام تكافؤ الفرص وتقتل روح المبادرة الجادة لدى الأفراد وتدمر النسق الاجتماعي و تفككه إلي أشلال و تساهم في انتشار الجهل وسيادة الأحقاد والضغائن في ظل انهيار القيم و انحطاط الكرامة الإنسانية.

كما أن النفاق والتملق في أقصي تجلياته يولد جيلا فاسدا مخادعا لا يدرك وظيفته التفاعلية داخل وسطه الاجتماعي ويكرس لانهيار العدل ويرسخ ثقافة الفساد.

في إطار المعالجة ينبغي وضع ضوابط تؤسس لقطيعة تامة مع هكذا ممارسات و تساعد علي الارتقاء بالنفس والنأي بها عن ما من شأنه أن يأتي لها بالذل و الهوان .

بالإضافة إلى تفعيل دور النخب الوطنية لما يترتب علي ذلك من ضرورة  لنشر ثقافة التسامح و التآخي و التعايش السلمي و إشاعة مكارم الأخلاق ضمانا لأمن واستقرار البلاد و العباد .

بالمقابل تشهد الأسواق الموريتانية قبيل رمضان علي غرار ما يحصل في دول العالم الإسلامي حراكا شعبيا كبيرا و إقبالا واسعا علي شراء المواد الأساسية الضرورية لمائدة الإفطار و هذا يشكل في حد ذاته تحديا للمواطن الفقير الذي يعاني في الأصل من عدم القدرة علي تحمل تكاليف هذه المواد في ظل ارتفاع الأسعار و استمرار المضاربة والاحتكار داخل الأسواق و غياب الرقابة و الضوابط و انعدام الوازع الديني و الوطني و الأخلاقي لدي بعض التجار و خاصة في موسم رمضان.

فلا صوت يعلو هذه الأيام فوق صوت أسعار البطاطس والبصل و الحليب و و و...   حيث و صلت لأسعار خيالية  .

و هي بالمناسبة مواد استهلاكية من بين أخرى يتقاطع فيها كل الموريتانيين، الفقير عديم الدخل و الغني المتخم بالمال.

 رمضان كريم.

أباي ولد أوداعة.