التعليم و قيم المواطنة بين زمنين !

سبت, 06/01/2024 - 19:57

إن التعليم هو قاطرة التنمية الحقيقية في العالم وهو المقياس الحقيقي لنهضة الأمم و الشعوب، كلام لم يعد من قبيل الشعارات التي يرددها البعض في إطار الاستهلاك السياسي أو الإعلامي.

حيث أن عمليات إعادة تطوير وبناء منظومة تعليمية في ظل إكراهات عولمة عارمة غزت البيوت و استباحت الأعراض و اختزلت المسافات بين العالم ضمن تحول اقتصادي رقمي مهيمن يتطلب أكثر من أي وقت مضي الوقوف علي الإخفاقات ومكمن الاختلالات البنيوية علي مستوى الإستراتجيات و السياسات و التجارب الماضية بغية تجاوزها و صياغة تصورات و مقاربات أكثر ملاءمة و واقعية.

انطلاقا من أن التعليم في أي مكان من العالم يقوم على أربعة عناصر أساسية:

‐ المعلم .

‐ الطالب .

‐ المدرسة.

- المنهج الدراسي .

يشكل الاهتمام بها مجتمعة نواة إصلاح التعليم.

ففي الماضي كان التعليم يخضع لنظام و قوانين صارمة .

و كانت القيم السائدة حينها متأسسة على ثقافة طورها الوعي الفطري للموريتانيين

فكان المعلم يستشعر القيمة الكبيرة لمهنته بصفته صاحب رسالة وليس موظفا بدوام جزئي مما أكسبه تقديرا واحتراما كبيرين داخل الوسط المدرسي و المجتمعي.

كما كان يوجد بالمقابل تركيز علي صدق النوايا وحب الدراسة والرغبة في التعلم و اكتساب المعرفة رغم ضعف الموارد و قلة الإمكانيات و صعوبة وسائل الاتصال و التواصل .

فكانت فترة الدوام تنقسم إلي فترتين صباحية و مسائية مما أسهم في تعزيز الجد و النشاط العملي و الاكتساب العلمي والمعرفي.

حيث تنشط فيها حركة الجميع معلمين و طلابا مشيا علي الأقدام لمسافات طويلة بغية الوصول إلي المدرسة دون ملل أو كلل ذهابا و إيابا .

إضافة إلي ما تمليه ظروف الإقامة أنذاك  داخل العاصمة انواكشوط و غيرها من مدن الداخل وفي أحياء الصفيح و علي مستوي المناطق و الأوساط السكنية الشعبية من قبيل إنعدام الكهرباء و قلة الماء الشروب و بالتالي إجبارية المطالعة تحت ضوء الشموع أو مصابيح الزيوت ( اللمبة ) .

مرحلة أسست للتعاطي الجاد مع المنظومة التعليمية القائمة آنذاك و التقيد بمجموعة من القيم و الضوابط و الثوابت الوطنية والانفتاح و الاندماج داخل الوطن الواحد كان لها الأثر الكبير في خلق جيل متعلم و متخصص له القدرة والقابلية علي خدمة الوطن و المواطن من مواقع مختلفة.

إذ تشير المعطيات التاريخية لمراحل نشأة الدولة الموريتانية و ما تلاها أن المدرسة العمومية كانت واحدة من الأجهزة الإيديولوجية و السياسية المتاحة أمام النخب التي مسكت الحكم و الدولة في فترة ما بعد الاستعمار فقد تم تسخيرها لخدمة هدف عملي تمثل في الأساس في تزويد الدولة الناشئة بالعنصر والكادر البشري المتعلم و المؤهل للانخراط في النسيج الإداري و السياسي للدولة عززته وقوته عوامل و شعارات كشعار الوحدة الوطنية الذي عمل علي تجذير حالة من التجانس الثقافي والسياسي وإيجاد وضع شعبي إجماعي حول مشروع دولة الاستقلال حينها.

ساهمت التكوينات و التدريبات الخارجية لطلائع  بعثات الطلبة الموريتانيين قبل و بعد الاستقلال في إتاحة الفرصة أمام الدولة الفتية للحصول علي أفواج من النخب مكنت من مرتنة الإدارة و تعويض إطارات الفرنسيين و الأجانب المغادرين و نجحت في ذلك عن جدارة.

من خلال بناء منظومة تعليمية قوية أسست لإصلاحات واسعة حققت إرساء الهوية الوطنية و أرست لمبادئ و قيم الجمهورية و مقومات دولة الاستقلال.

و غرس قيم المواطنة و الابتعاد عن الفساد و الترفع عن أكل المال العام.

كما أسهمت في تكوين أجيال وطنية ساهمت لاحقا في بناء الدولة الحديثة و عصرنة المجتمع.

لكن في بداية ثمانينات القرن العشرين شهدت الدولة الموريتانية منعطفا و توجها ليبراليا علي غرار الدول النامية بضغوط فرضتها سياسات النظام الدولي حينها كانت لها التأثيرات و التداعيات المباشرة علي التغييرات الحاصلة في مختلف مناحي الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية.

حيث ترك خيار التخلي التدريجي عن الدور الاجتماعي للدولة ضمن رؤية ليبرالية آثارا سلبية علي التعليم العمومي مسببا لمآزق متباينة ظهرت في الأساس في تآكل بناه التحتية و انعدام مقومات الجودة المعرفية البيداغوجية في ظل غياب سياسات إصلاح ناجعة من داخل قطاع التعليم. عززتها و دعمتها عوامل و تحولات اجتماعية كبري:

‐ تغيير العقلية.

‐ طغيان المادة والجشع المالي..

‐ التخلي عن مبادئ و قيم الجمهورية .

-تزايد الإقبال علي التعليم بحكم التوسع الحضري والإنفتاح في ظل تدني مستوي التعليم العمومي.

‐ تراجع الوسائل و البني المؤسساتي التحتية للتعليم.

‐ ضعف أجور و علاوات المعلمين والأساتذة.

- عدم ملاءمة ومسايرة المناهج التربوية المتاحة.

‐ إخفاق و فشل الإستراتيجيات و سياسات إصلاح التعليم القائمة انذاك.

‐ تصاعد استخدام و سائل التواصل الاجتماعي بشكل دائم و مفرط بين الأطفال و الشباب مما يؤثر سلبا علي أخلاقهم وأسلوب تفاعلهم .

‐  تراجع و تلاشي منظومة القيم الوطنية و الدينية و الثقافية و الأخلاقية ...،

بالمقابل وعلي شاكلة هذا التراجع الملحوظ للدور الريادي للمدرسة العمومية شهد قطاع التعليم الخاص الحر إزدهارا كبيرا بدأ ينمو ببطء في أواخر الثمانينات و بداية التسعينات ليشهد حالة توسع و هيمنة مستمرة خلال السنوات الأخيرة .

حيث أصبح هذا القطاع حاضنة لاستقطاب نزعة اجتماعية متطورة ضد واقع المدرسة العمومية للبحث عن مستقبل مدرسي ومهني أفضل للأبناء.

إذ أن جيلا واسعا من الآباء المصنفين ضمن الشرائح المتوسطة لم يعد ينظر الي التعليم العمومي بوصفه أداة للصعود الاجتماعي و الاندماج ضمن الهياكل الاجتماعية  والاقتصادية القائمة و إنما أصبح علامة للفشل و التخلف المعرفي.

لكن بعض المراقبين والمهتمين بشأن التعليم يرون أن القطاع الخاص لم يحقق هو الآخر المقاصد و الأهداف المرجوة من عملية التعليم ولا النهوض بالمستوى المعرفي، وأنه لم يعد بالأفضل والأحسن من العمومي.

حيث تحول التعليم الخصوصي إلي بديل فرضته وضعية التعليم العمومي و أملته ظروف مرحلة جديدة من الممارسات و التعاطي المادي

 ساهمت في تكريس الطبقية و إبراز ملامح الفوارق داخل المجتمع الواحد و امتصاص جيوب المواطنين من خلال الدفع المستمر لرسوم و تكاليف الدراسة و مصروفات الدروس الخصوصية داخل البيت إضافة إلي أعباء المواصلات و ما تتطلبه المرحلة من ضرورة استخدام وسائل نقل خاصة أو غيرها من و إلي مؤسسات التعليم مهما قصرت أو بعدت المسافة .

 دون أن ينعكس ذلك علي المستوي العلمي و المعرفي للتلاميذ و الطلاب أو يحدث إضافة نوعية في ظل أزمات صحية و اقتصادية حادة دولية متكررة و مستمرة، مما خلق ثقافة استهلاكية غير محدودة و كرس لمفاهيم و ممارسات أصبحت تميز المجتمع و تثير الالتباس بين مفهومي الكماليات و الضروريات لدرجة يصعب التخلص من تبعاتها.

بالإضافة إلى ما سبق شكلت الإرادة الصادقة و الجادة لدي رئيس الجمهورية السيد محمد ولد الشيخ الغزواني ،توجها حقيقيا نحو إعادة بناء وإصلاح نظام تعليمي شامل قاعدي جسدته اللحظات الأولي من فعاليات يوم التعليم تحت شعار المدرسة الجمهورية مشروع إصلاح تربوي

للجميع وبالجميع برعاية من رئيس الجمهورية وبحضور واسع للأسرة التربوية ومنظمات آباء التلاميذ  و هيئات التأطير و شركاء التنمية حيث أكد رئيس الجمهورية في خضم حديثه بالمناسبة و بالحرف الواحد : ( أن بناء نظام تعليمي شامل ذي جودة عالية يفتح الآفاق أمام عبقرية شعبنا التي هي مورده الذي لا ينضب ،شرط ضروري في نجاح ما نعمل عليه جادين من مكافحة الفقر والبطالة و النهوض بالقطاعات الإنتاجية و محاربة الهشاشة و الغبن و العقليات الاجتماعية السلبية وغير ذلك.

إن الغاية من إصلاح مدرستنا العمومية يضيف رئيس الجمهورية حينها هي جعلها أكثر قدرة علي أن ترسخ لدي أبنائنا تعاليم ديننا الحنيف و قيم ثقافتنا العربية والإفريقية و قيم المواطنة و المساواة و التلاحم الاجتماعي وكذلك أن يتيح لهم جميعا خدمة تعليمية ذات جودة عالية منسجمة المخرجات مع متطلبات النهوض الشامل الذي تتوفر بلادنا اليوم علي مؤهلات معتبرة لتحقيقه ..) ...الخ .

حديث حمل رؤية واسعة مستنيرة و متبصرة نحو إصلاح تعليمي جاد علي أرض الواقع.

جسدته الخطوات والإجراءات المتخذة من بين أمور أخري أسست لانطلاق فعلي نحو إرساء نظام تعليمي جمهوري وتعزيز الوحدة الوطنية:

‐ كحصر السنة أولي أساسية علي التعليم العمومي خطوة هامة في الاتجاه الصحيح  بدأت تأتي أكلها.

‐ تعميم الزي المدرسي الموحد داخل المدارس العمومية لإذابة الفوارق الاجتماعية و غرس قيم المواطنة.

بالتزامن مع ما شهدته البلاد مؤخرا من ورشات بناء و تشييد واسعة لمدراس و جامعات و منشآت تعليم بمستويات متباينة لتعزيز البني التحتية .

و كذلك إطلاق مشاريع جديدة.

بالإضافة الي ما شهده قطاع التعليم الفني من تطوير و دعم مستمرين عبر إنشاء مدارس ومعاهد عليا ومتوسطة ستلبي متطلبات المرحلة والسوق في ظل استثمارات هائلة و واعدة في مجال الطاقة و الغاز.

حيث أن التعليم الفني يعتبر من الأدوات الرئيسية لتحقيق برامج التنمية الشاملة للنهوض بالاقتصاد الوطني و توفير العمالة الفنية المؤهلة للقيام بكل المهام في مختلف التخصصات بدلا من الاستعانة بأخرى فنية من خارج الوطن.

بتضافر  جهود الجميع يبقي الأمل قائما بغية الوصول الي تعليم منشود من خلال الإرادة الجادة للتطلع إلي خطط وبرامج تناسب البيئة والمرحلة.

وفق الله الجميع لما يخدم مصلحة البلاد والعباد.

أباي ولد أوداعة.