غزة... من حالة متأزمة إلى معضلة استراتيجية

أحد, 10/12/2023 - 22:55

شاهر الشاهر 
من الواضح أن الحرب في غزة باتت معضلة للجميع، بمعنى أن إيجاد حل لها لم يعد أمراً سهلاً، نظراً إلى حجم التدخلات الخارجية فيها، وغياب الفاعلين الإقليميين، والمناكفات السياسية الكبيرة بين اللاعبين الدوليين، والتي أدّت، في نهاية المطاف، إلى حالة من "العطالة السياسية" لمجلس الأمن الدولي، الذي لم يعد قادراً حتى على التوصل إلى هدنة حقيقية تلبي الحاجات الإنسانية.
وعلى الرغم من أن ما حدث في مجلس الأمن لم يكن مفاجئاً لأحد، فإنه كشف حقيقة الفوضى التي يعيشها العالم اليوم، وأكد أننا نعيش في عالم بلا قيادة.
هذه الليونة في بنية النظام الدولي، ستترتب عليها نتائج كارثية تكون طريقاً لصياغة شكل النظام الدولي المقبل، وتموضعات القوى الدولية الجديدة والفاعلة فيه.
وتشهد منطقتنا العربية ما يمكن أن نسميه "إعادة الهيكلة الإقليمية". ويُعَدّ هذا المفهوم من الأطر التحليلية المستحدثة في فهم التفاعلات الإقليمية، وهو مفهوم يشير إلى صراع إقليمي ممتد، يتميز بأنه لا يهدف إلى تحقيق انتصارات عسكرية بقدر ما يهدف إلى تغيير الثقافة السياسية السائدة، وترويج خرائط جديدة.
وتشترك فيه ثلاثة أنواع من الفواعل (فواعل من دون الدول، وفواعل إقليمية، وفواعل خارجة عن الإقليم). كما أنه يتسم بالتطرف في سلوك بعض الأطراف المندمجة فيه.
في المحصّلة، فإن "الشرق الأوسط" يمر في فترة انتقالية، ومستقبله بات مرتبطاً بنتيجة إعادة الهيكلة الإقليمية القائمة.
تطورات في الداخل الأميركي
تشير استطلاعات الرأي إلى أن 65% من الشعب الأميركي لا يؤيدون الحرب التي تشنها "إسرائيل" على غزة، وأن شعبية الرئيس بايدن باتت في أدنى مستوياتها نتيجة دعمه المطلق لنتنياهو.
وحدثت تطورات كبيرة داخل الحزب الديمقراطي، بحيث تشير الأرقام إلى أن 85% من الديمقراطيين هم ضد الحرب.
كذلك وجّه 24 نائباً رسالة مفتوحة إلى بايدن يطالبونه فيها بوقف الحرب على غزة، كونها باتت تضرّ بالمصالح الأميركية، وتسيء إلى سمعة أميركا في العالم.
كما برزت مواقف شبابية رافضة للحرب، بحيث إن 400 شابّ، من الذين يتدربون في البيت الأبيض، والذين سيصبحون "قادة الغد" في الولايات المتحدة، أعلنوا رفضهم المجازر التي ترتكبها "إسرائيل" بحق الأطفال في غزة، وطالبوا الرئيس بالتوقف عن دعمه لها.
ومن هذه التطورات، قيام مجلس الشيوخ بوقف المعونة المقررة لـ"إسرائيل"، والبالغة قيمتها 14 ملياراً و200 مليون دولار أميركي، وخصوصاً أن "إسرائيل" تُعَدّ المتلقي الأكبر للمساعدات الخارجية الأميركية منذ الحرب العالمية الثانية، بحيث تشير الوثائق الرسمية الأميركية إلى أن إجمالي حجم المساعدات المقدمة إليها، في الفترة 1946-2023، بلغ نحو 158.6 مليار دولار.
على الرغم من الدعم الأميركي المطلق لـ"إسرائيل" في حربها الهمجية، التي تشنها على قطاع غزة منذ أكثر من شهرين، فإن هناك تغيرات في الموقف الأميركي بدأت تظهر لجهة ضرورة وضع نهاية سريعة لهذه الحرب.
فالوقت بات ضاغطاً على الإدارة الأميركية التي بدأت تستعد للعام المقبل، الذي سيحدد من هو الرئيس المقبل للولايات المتحدة الأميركية.
كما أن الرئيس بايدن لا يريد أن تأتي احتفالات رأس السنة والعالم منشغل بالحرب في غزة واحتمالات تطورها لتصبح حرباً إقليمية.
الضوء الأخضر الأميركي لنتنياهو كان مرتبطاً بعامل الوقت، لا بحجم الدمار وفداحة الجرائم، التي يمكن ارتكابها ضد المدنيين في قطاع غزة.
وبات الرئيس الأميركي، جو بايدن، أمام معضلة حقيقية في تعاطيه مع الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة. فاستمرار الحرب سيحرمه فرصة الفوز بولاية ثانية، ووقفها والضغط على "إسرائيل" قد يمنعانه من إكمال ولايته الحالية، وخصوصاً أن نتنياهو قد لا يلتزم ما تطلبه إليه أميركا، معتمداً في ذلك على اللوبي الصهيوني المنظم والفاعل في الولايات المتحدة الأميركية.
وعلينا أن نتذكر أن الديمقراطيين تاريخياً كانوا الأقرب إلى فكرة "حل الدولتين"، لكنهم كانوا يصطدمون بالتعنت الإسرائيلي الذي يستطيع في نهاية المطاف إجهاض تلك التوجهات الأميركية.
فالرئيس بيل كلينتون، حين حاول الضغط على "إسرائيل" من أجل قبول فكرة "حل الدولتين"، عمل اللوبي الصهيوني على توريطه في فضيحة مونيكا، وأخرجه بطريقة جعلت العالم لا يتذكر من تاريخه السياسي سوى تلك القصة.
والرئيس أوباما، عندما حاول في عام 2009، أن ينتهج نهجاً سياسياً يخدم مصالح الدولة الأميركية أولاً، قوبل بموجة كبيرة من الانتقادات من جانب داعمي "إسرائيل" في الولايات المتحدة. 
وعلى الرغم من أن أوباما هو من زاد في حجم المساعدات الأميركية لـ"إسرائيل"، من 3.1 مليارات إلى 3.8 مليارات دولار، فإنه تعرّض لصفعة كبيرة من رئيس الوزراء الإسرائيلي في ذلك الوقت، بنيامين نتنياهو، الذي قام بزيارة الولايات المتحدة، في عام 2015، تلبية للدعوة التي وُجهت إليه من مجلس النواب الأميركي، ولم يلتقِ بأوباما.
واليوم، بات على بايدن أن يفكر، من هذه الزاوية، بمعنى أن دعم "إسرائيل" بات مشكلة، أمّا التخلي عنها فهو كارثة بكل تأكيد.
تلك المواقف وغيرها، دفعت الرئيس بايدن إلى اتّباع "دبلوماسية أكثر خشونة" مع "إسرائيل"، فأعلن رفضه فكرة تهجير الفلسطينيين، وهي الخطة التي كانت "إسرائيل" تحلم بتنفيذها.
معضلة الحرب على غزة
بما أن كل حدث يخلق الوضع الجيوبوليتيكي الخاص به، لذا فإن تغير الأوضاع الجيوبوليتيكية لم يعد مرتبطاً بتغير الحدود، كما كان في التصور التقليدي من خلال زوال دول أو تفككها، لكن من خلال تبلور أحداث معينة يمكن أن تؤدي إلى حدوث اضطراب جيوبوليتيكي، وخصوصاً إذا كانت أحداثاً مفاجئة وكبيرة وغير متوقعة، وهذا ما ينطبق على عملية طوفان الأقصى، بصورة كبيرة.
حجم العملية وهولها أثارا غضب الإسرائيلي وكسرا عنجهيته، وبالتالي قرر استعادة هيبة الردع التي فقدها، بما أوتي من قوة، ومهما كان الثمن.
رفع سقف المطالب الإسرائيلية، في بداية الحرب. والفشل الكبير في تحقيقها زاد في تعقيدات الموقف، وبات من غير الممكن الطلب إلى نتنياهو وقف تلك الحرب التي ستضع نهاية لحياته السياسية، بل ربما لحياته الشخصية، فشخص، له هذا السلوك، لن يتردد أبداً في الإقدام على الانتحار هروباً من هذا الواقع.
توسع نطاق الحرب، وخصوصاً ما يقوم به الجيش اليمني، يُعَدّ تطوراً خطيراً وكبيراً، ويدق ناقوس الخطر، ويدفع دول العالم إلى التحرك لوقف تلك الحرب، التي باتت تهدّد طرق التجارة الدولية.
تاريخياً، كانت الاستراتيجية الأميركية في منطقة الشرق الأوسط تهدف إلى تحقيق ثلاثة أهداف: أمن النفط؛ أمن "إسرائيل"؛ حماية طرق التجارة الدولية.
اليوم، أمن "إسرائيل" بات مهدَّداً بقوة، وكذلك الممرات البحرية، وبالتالي منع وصول النفط إلى أوروبا، وهو ما يعني فشل الاستراتيجية الأميركية، في كل الصعد. 
المخرج الوحيد لنتنياهو هو النجاح في توسيع الحرب عبر جر حزب الله إلى مواجهة مباشرة مع "إسرائيل"، وبالتالي انتقال الحرب إلى سوريا. 
حزب الله لا يزال حتى اليوم قادراً على ضبط قواعد الاشتباك، إدراكاً منه أن قواعد الاشتباك تحددها الأوضاع الميدانية على الأرض، لا العكس.
وبالتالي، يتم التصرف وفقاً لمبدأ "تحقيق الردع من دون أن تكون المبادأة من قبله"، استجابة لرغبة روسيا وإيران وسوريا في عدم إعطاء نتنياهو الفرصة لتوسيع الحرب، وبالتالي تدخل الولايات المتحدة فيها، بصورة مباشرة.
الحل الآخر أمام نتنياهو هو العمل على جرّ الولايات المتحدة لتكون طرفاً في الحرب، عبر تنفيذ اعتداء مباشر على القوات الأميركية في المنطقة، واتهام الطرف الآخر بالقيام بذلك، على غرار ما حدث في عام 1967، حين أقدمت "إسرائيل" على ضرب المدمرة الأميركية "ليبرتي"، والتي أدت إلى مقتل 34 جندياً أميركياً وجرح 171.
إن فكرة الحرب الكبرى لا يريدها إلا نتنياهو، فالحل الوحيد أمامه هو الهروب إلى الأمام، مهما كان الثمن.
وحتى الآن، لا يوجد من هو قادر على لجمه. وحتى لو أراد الرئيس الأميركي ذلك، فلن يستطيع، في ظل التأييد شبه المطلق لـ"إسرائيل" في مفاصل صنع القرار السياسي الأميركي.
ربما الحل الوحيد هو شكل الترتيبات الأمنية المقبلة في غزة، وطبيعة تلك الترتيبات، والتي ستكون انعكاساً وتكريساً لإرادة من سينتصر في الميدان.