خطاب رئيس الجمهورية في ذكرى عيد الإستقلال.. قراءة في المضامين و المقاصد

أربعاء, 29/11/2023 - 21:30

أكد رئيس الجمهورية السيد محمد ولد الشيخ الغزواني في خطابه بمناسبة الذكرى الثالثة و الستين لعيد الاستقلال الوطني المجيد، التي تم إلغاء مراسيم الاحتفال المخلدة والمنظمة لها خلال الموسم الحالي وطنيا و على مستوى الممثليات القنصلية والسفارات الموريتانية خارج الديار.
بأمر من رئيس الجمهورية تضامنا مع أهل غزة و نصرة للقضية الفلسطينية العادلة، في موقف مشرف يذكر فيشكر، على أن الاحتفاء بذكرى عيد الاستقلال المجيد يشكل لحظة متجددة نستشعر من خلالها حجم و نبل الجهود المبذولة و المنتظرة منا جميعا في كل المستويات والمواقع، و في هكذا مناسبة.
كما بين أيضا أن هذه الذكرى تدعونا اليوم و في هذا الظرف بالذات و من خلال ما قيم به من إصلاحات وطنية شاملة إلى المزيد من اليقظة و العمل لكسب الرهان التنموي و رفع التحديات في ظل التحول نحو أنماط جديدة مسايرة للعصر في التفكير و التدبير و التسيير أمام حركية الاستثمارات  الوطنية الواسعة و الأجنبية المتصاعدة في مجالات وقطاعات تنموية وخدمية متعددة واقتصادية واعدة. 
في حين شكل هذا الخطاب، من حيث المضمون، جردا وعرضا شاملا ومفصلا لحصيلة المراحل الأولى و الأخيرة من عمر المأمورية الأولي. كما تضمن رؤية شاملة و نظرة متبصرة لكل ما يجري من جزئيات و تفاصيل داخل الوطن، بالإضافة إلى تشخيص واقعي لمكمن الخلل ومعالجة الإشكالات الحاصلة.
ما ميز هذا الخطاب نصا هو مكاشفة و مصارحة الشعب من خلال تقديم منجز وطني لا مراء فيه و حصيلة عمل و نجاح على المستويين الوطني والدولي وبلغة أرقام لا تقبل التأويل لامس في مبتغاه على الصعيد الوطني هموم المواطن، وخاصة الطبقات الاجتماعية الهشة و الأقل دخلا تزامنا مع انطلاق مرحلة جديدة من المشاريع التنموية و الخدمية والإصلاحات الهامة في إطار تنزيل المراحل الأخيرة من برنامجه التنموي الانتخابي تعهداتي وتجسيده على أرض الواقع، رغم ما اعترضه من عوائق و معوقات بسبب تداعيات جائحة كورونا المتحورة و الحرب الروسية الأوكرانية المستمرة و انعكاساتها و تأثيراتها على أسواق المحروقات والحبوب.
تأسيسا لما سبق جاءت الإشادة الكبيرة لرئيس الجمهورية بدور وتضحيات ابطال المقاومة وأفراد القوات المسلحة والأجهزة الأمنية وكل الأجيال التي تعاقبت على تأسيس وتشييد الدولة الموريتانية ضمن العرفان بالجميل و من باب الانصاف.
إذ لا تنضج الشعوب وتتسع مطامحها لبناء حاضرها و مستقبلها إلا من خلال استحضارها لتاريخها و مقاربة لحظاتها النضالية و استخلاص العبر من مختلف محطاتها تكريسا لما في لحظات الماضي والحاضر من قوة جذب باتجاه مستقبل يسعى للأفضل.
يجمع المراقبون للشأن العام أن مضامين هذا الخطاب تأتي في سياق الاستعداد والتحضير للإستحقاقات الرئاسية القادمة دون الكشف أو الإعلان رسميا عن نية ترشح رئيس الجمهورية السيد محمد ولد الشيخ الغزواني للرئاسيات المرتقبة  رغم المطالبة الواسعة والدعوات المتكررة لحزب الإنصاف و أحزاب الأغلبية الداعمة بضرورة الترشح لمأمورية ثانية، و إن كان البعض يرى بأنها لا تتطلب أي مزايدة أو شحن  فهي مستحقة دستوريا بعد دخول الحزب الحاكم مرحلة ترتيب البيت داخليا في ظل تفاهمات جديدة مع الأغلبية و تجاوز الخلافات الحادة الناجمة  عن إجراءات الإقصاء المفروضة حينها و التهميش المعلن داخل المشهد السياسي نتيجة لحالات المغاضبة والانسحاب الواسعة التي شهدها حزب الإنصاف إبان الإنتخابات النيابة و البلدية و التشريعية الأخيرة، والذي أملته ظروف المرحلة الانتخابية الراهنة و تقاطع المصالح و دعم رئيس الجمهورية.
و في سياق أعم يرى بعض المحللين أن زيارة رئيس الجمهورية لبعض ولايات الوطن، بالتوازي والتزامن مع جولة وزير الداخلية رجل المهام الصعبة السيد محمد احمد ولد محمد الأمين داخل البلاد، تدخل في إطار التحضير و التنسيق المحكم و الاستعداد الجيد للاستحقاقات الرئاسية القادمة بحكم اختيار التوقيت و طبيعة الأهداف غير معلنة للزيارة والتي توصف بذات الطابع الإنتخابي.
و نظرا لما يحمله الخطاب أيضا من دلالات عميقة كإبراز وعرض و تسويق حصيلة أهم الإنجازات خلال المأمورية الأولى على الصعيدين المحلي و الخارجي، في ظل ما يشهده العالم من أوضاع متأزمة و حروب و عدوان إسرائيلي غاشم على قطاع غزة و حصار و إبادة جماعية و تطهير عرقي أمام مرأى و مسمع من العالم دون أن يحرك أحد ساكنا. 
أما على مستوى المحيط الإقليمي فالوضع ليس بمعزل عن ما يحدث في العالم حيث يعاني هو الآخر من اضطرابات عميقة و عدم استقرار أمني و سياسي خطيرين مما ساهم بشكل كبير في تنامي ظاهرة الانقلابات العسكرية و الإطاحة بالأنظمة المنتخبة خاصة داخل مناطق النفوذ الفرنسي مما تسبب في إحداث القطيعة التامة مع فرنسا و طرد قواتها.
ما غاب عن مضمون و محتوى هذا الخطاب هو عدم صدور قرار بشأن زيادة الرواتب كان مرتقبا في ظل تطلع عامة الناس لذلك و احتمال الدفع بمكافآت تشجيعية و رفع الأجور والعلاوات و زيادة الإعاشات العائلية بالنسبة للمتقاعدين على غرار ما حصل في السنوات الأخيرة، و شكل خطوة هامة آنذاك  في الاتجاه الصحيح كان لها الأثر الكبير في التخفيف من وطأة ارتفاع أسعار المواد الأولية الضرورية وتدني الأجور. 
بينما كشف بعض المراقبين أن ذلك عائد إلى التراجع الملاحظ ميدانيا و التأخر الجديد لعملاق الغاز البريطاني BP و عدم بدء الإنتاج في الموقع في الآجال المحدد سلفا في منطقة السلحفاة والذي كان من المتوقع ما قبل السنة الماضية ليتأجل إلى نهاية العام الجاري 2023 م وليتأخر لاحقا إلى الربع الأول من عام 2024 م إن لم يحدث طارئ في تسليم السفينة العائمة و العاملة في الميدان وتثبيت خطوط الأنابيب، خاصة أن الدولة و الأطراف المشاركة قد أدرجت هذا الحدث الاقتصادي الهام ضمن فرضياتها للقوانين المالية في أكثر من مناسبة و ما لذلك من تأثيرات وتبعات سلبية على الاقتصاد الوطني و ارتباك في الميزانية.
بالمقابل و رغم مآخذ و تحفظ البعض على أداء حكومات النظام الحالي طيلة المأمورية الأولى، و الذي جاء دون المتوقع باعتراف من رئيس الجمهورية نفسه، و من خلال نتائج الزيارات الميدانية المفاجئة والمتكررة لرئيس الجمهورية والوقوف على الإختلالات والنواقص الحاصلة في بعض القطاعات الخدمية نتيجة التهاون و الاهمال و التلاعب بمصالح الشعب، إضافة إلى التأخر و التباطؤ  الملاحظ في إنجاز المشاريع التنموية و الخدمية و عدم التقيد بشروط الجودة، و ما تلى ذلك من إجراءات ردع صارمة و إقصاء وإعفاء كل من لم يستجب لمعايير الجودة و شروط دفتر الالتزامات واحترام الآجال المحددة سلفا، فإن تقارير محكمة الحسابات قد أوضحت و بينت، في عمومها، حجم الفساد الحاصل في بعض القطاعات والدوائر الحكومية، وما صاحب ذلك من إقالات و تجريد للمتورطين من أصحاب الوظائف السامية في انتظار اكتمال الإجراءات و إعداد المساطر وتحريك الملف قضائيا، وما قد يترتب على ذلك من أمور.
في حين يرى البعض أن ما خفي أعظم في ظل تراجع دور المفتشية و الرقابة وضعف الوازع الديني والوطني و غياب الضمير لدى موظف الدولة، و اعتماد سياسة تدوير المفسدين و توظيف رموز العشرية دون غيرهم من اصحاب الكفاءات والطاقات الشابة الصاعدة، ففاقد الشئ لا يعطيه.
لا شك أن القرار المفاجئ داخل قطاع الصفقات، و الذي تم بموجبه الاستغناء والتخلي عن خدمات كل من رئيسي اللجنة الوطنية لرقابة الصفقات العمومية وسلطة تنظيم الصفقات.
بالإضافة إلى تجريد مسؤولين كبار من نفس القطاع لأسباب تتعلق بالتهاون وتمرير صفقات بطرق ملتوية، حسب ما ورد في تقرير محكمة الحسابات، لدليل قاطع على أن الفساد مازال مستشريا بشكل كبير في قطاعات حساسة و أن رئيس الجمهورية ليس راض إطلاقا عن الطريقة التي يدار بها قطاع من قبيل الصفقات لما يمثل ذلك من أهمية لبلوغ اهداف التنمية المنشودة و النهوض بالبلاد و العباد وما يشكل ايضا من عبء على موارد الدولة و استنزاف و امتصاص محاصيل و عائدات الخزينة العامة للدولة.
أمام هكذا وضع يظل من الضروري تبني مقاربة وطنية أكثر جدية و صرامة في مجال الحوكمة و محاربة الفساد حيث شدد رئيس الجمهورية، في أكثر من خرجة إعلامية، على ان الفساد داء عضال و أن موارد البلد محدودة لا يمكن أن تصرف في غير  ما رصدت له و أن الدولة لن توفر الغطاء على اي مفسد مهما كان.
إلا أن محاربتها للفساد تبتعد عن الطرق الاستعراضية و أن الفاعلية تنافي الضجيج في أحيان كثيرة و أن تسييس القضايا الفنية مضر بالدول و المجتمعات.
فبما أن للإصلاح بقية و للمأمورية عهدة ثانية فإننا مطالبون، أكثر من أي وقت مضى، بدعم وتشجيع جهود و مساعي رئيس الجمهورية السيد محمد ولد الشيخ الغزواني الرامية إلى إرساء نظام تعليمي جمهوري قوي وجامع في ظل عدالة اجتماعية الكل يجد نفسه فيها، إضافة إلى تحقيق التنمية والإصلاح وإحداث تغيير في ظل الاستقرار الحاصل والانفتاح سيؤسس لمرحلة جديدة و لغد أفضل.
دامت أيامكم كلها أعياد ومسرات.
اباي ولد أوداعه.