عثمان ، بلال ، محمود : ثلاثة أطفال تجمعهم أمور كثيرة ، فقر و قلة حيلة ، و جهل و أمية كرسها تاريخ اسود من الرّق و العبودية خضع له اسلافهم ، وفرض على اسرهم واقعا، جعل أقصى طموحهم الحصول على لقمة العيش، اما التعليم و التمدرس فترف لا يملكون و سائله، و لم يكتسبوا ثقافته قط، قد يقول قائل ان كل ما ذكر آنفا أمور عادية، يعيشها الكثير من اطفالنا، هذا صحيح، و لكن غير العادى ، والغريب ، بل الغريب جدا ان كلا من عثمان ، بلال ، و محمود بنفس العمر تقريبا و لا تربط بينهم أية صلة قرابة و قد ولدوا عميانا، لم يروا النور - كما يقال - من ظلمة الأرحام الى ظلمة العمى.
فى البداية حاولت عائلاتهم مواجهة الامر ، لجأوا الى الأطباء علهم يجدون علاجا او تفسيرا لحالة ابنائهم و لكن غلاء رسوم الخدمات الصحية و سوء التشخيص، و افتقادهم الى تأمين صحى- كحال 95 فى المائة من الموريتانيين - و فقرهم المدقع لم يجعلهم يستسلمون او يركنوا الى واقعهم.
باع ابو عثمان حماره و عربته اللذين هما كل ما يمل ، اما ابو بلال - مساعد البناء الذي لا يملك الا مجرفة " ابيلة " و حفارا يدوياً " ابيك " ، فلم يجد ما يبيعه و لجأ ابو محمود - السباك فى النهار - الى العمل حارسا ليليا، و اصرت امهات الأطفال - اللاتي يعملن بائعات خضار " انجايات " فى الصباح وبائعات كسكس و العيش فى المساء - على اللجوء الى خدمات الحجابة والمشعوذين و العرافة، و هو امر شائع على كل حال فى هذه البلاد حتى بين المثقفين و النخب و علية القوم.
طالت رحلة العلاج و انعكست خيباته سلبا على الأسر الثلاثة، فهجر الآباء او هربوا بعد ان هزموا فى مواجهة مرض الأبناء و مسؤوليات العائلة، وبقيت الأمهات يواجهن المصير لوحدهن، حركتهن غريزة الأمومة العظيمة، فلم يتركن باب أمل واعد الا طرقنه، لم يفقدن الأمل او يياسن، كن اليد التى تطعم الأبناء و العين التي يبصرون بها.
كبر الأولاد، وصلوا الى سن الدراسة - فى بلد عاجز عن تقديم تعليم مقبول للأطفال العاديين، اما تعليم العميان و طريقة " ابرايل " لتعليمهم فلا محل لها فى قاموس برامج تعليمنا.
حتى معلم القران " امرابط الحي" رفض التنازل عن " اثنينيته " و " اربعته " فضلا عن إيجاره الشهري، لم تقنعه محاولة البعض ترغيبه فى الأجر الذى سيجنيه من وراء هؤلاء الأطفال االمساكين،
انكفأ الأولاد رهينو عدة محابس ، فى انتظار اليوم الذى سينضمون فيه الى جيوش الشحاتين الذين يحتلون التقاطعات و إشارات المرور فى مدننا، كانت قوافل سيارات اصحاب المبادرات السياسية تشد انتباه الأطفال فيستمعون الى خطابات الثناء و قصائد المديح - عبر مكبرات الصوت - لممدوح يجهلون على ماذا يمدح ؟ ، و مادح لا يعرفون لماذا يمدح ؟ ولكنهم متأكدون ان كليهما " المادح و الممدوح " لا تعني لهم حالهم شيئا، كذلك كانت قوافل الحقوقيين و "محرري العبيد" تمر دون ان تلاحظهم ، فهي مشغولة بالبحث عن صيد او استعراض ينطلي على داعميهم و يجلب مزيدا من التمويلات و الجوائز .
و سط هذا التناقض و هذه الفوضى غير الخلاقة ، لاح اخيراً بصيص أمل، بعثة طبية تزور المدينة وتقدم خدماتها مجانا للفقراء، امر لا يصدق.
استطلعت الأمهات الامر ، و تم تأكيده ، قافلة صحية كبيرة يمولها و يقودها ابن هذه المدينة الدكتور محمد ولد اصنيبه، تستقبل المرضى و كل شيء مجاني، الاستشارة ، الفحوصات، العلاج، الدواء .
معقول ؟ رجل اعمال او طبيب موريتاني او الاثنين معا ينفق من حر ماله ويهدر وقته ، لا يرجو الربح و لا يخاف الخسار ، أية ثقافة غريبة هذه ؟!
لو فكرنا بعقلية مجتمعنا - كمثال بسيط - قيمة تمويل احدى هذه القوافل " الغبية " وتجهيزها بالأدوية و المعدات اللازمة و الإقامة و التذاكر ، كم يجلب من حاويات الأدوية المزورة و كم يحقق من الأرباح السهلة ؟ ،
عجيب امر ولد اصنيبه، كيف فاته الاقتداء بكبار أطبائنا، و لماذا ضيع السير على خطى رجال اعمالنا المضمونة الربح ؟
يبدوا ان الرجل قد سلك سبيلا لم يسلكه احد قبله.
ضمت قافلة ولد اصنيبه هذه المرة أخصائي العيون المغربي المعروف البروفيسور : زاد ناس، الذى كشف على عثمان، بلا ، و محمود، و كانت المفاجاة المدوية، يمكن علاجهم، و لكن يجب نقلهم الى المغرب.
تراجعت فرحة الأمهات بعد ربط العلاج بالسفر الى الخارج ، فرددن بصوت واحد من أين يا ربى؟
لم ينمن تلك الليلة و هُن يفكرن ، ليس لدينا مانبيعه، اتصلن على منتخبي المدينة ممن منحوهم اصواتهم فى آخر انتخابات، مقابل الكثير من الوعود، لم يتلقوا ردا ، اتصلوا على الجمعيات الخيرية الاسلامية، و عرضوا عليهم بناء مساجد على أنقاض بيوتهم مقابل علاج الأطفال، رفض المشايخ العرض وذكروهم بدل ذلك ببيت " الجنة " الموعود.
قررت الأمهات طرق أبواب حركات محاربة الرّق ، اجتمعن بمسؤولي العمليات فى هذه الحركات، و رسموا لهن خارطة طريق تقتضي عودتهن الى المدينة، و ان تقتحم مواكب الحركة حيهم فى مشهد مسرحي، و يتم تكييف القضية الى عبودية و رق و الجماعة فى أوروبا " دفيعة " و سيربح الجميع.
عدن بخواطر مكسورة الى بيوتهن، فى الصباح التالي زارهم الدكتور محمد اصنيبه صحبة البروفيسور زاد ناس الذى أكد إمكانية العلاج، و طلبا منهم الاستعداد للسفر مع تعهد من ولد اصنيبه بتحمل كل شي ، ردت الأمهات ببذل كل ما يملكن " دموعهن " ،
و فى صباح بيضاوي بارد حطت. " الموريتانية " فى مطار محمد الخامس الدولى ، و نزل منها عثمان، بلال، و محمود و امهاتهم،
أنهى الدكتور اصنيبه إجراءاتهم بسرعة، و استضافهم فى بيته أسبوعا تحضيرا لرحلة علاج امتدت لشهرين تقريبا، تكللت بعمليات جراحية ناجحة اجراها البروفيسور زادناس ، و ازال خلالها نوعا نادرا من " المياه الزرقاء " "اطبيگات" ، يصيب الأجنة نتيجة تعاطي الام الحامل لبعض الأدوية.
اخيراً رأى الأطفال النور ، و عادوا الى مدينتهم محملين بالهدايا.
اليوم يعيش هؤلاء الأطفال حياة طبيعية، فقط لأن رجلا واحدا يملك من الانسانية ما لم يملكه أغنى رجال اعمالنا من المال، و لأن طبيبا واحدا يملك من الرضى و التضحية ما لم يملكه أغنى أطبائنا من النهم و الجشع.
محمد ولد آمه