الانسحاب مع كامل التقدير / محمد أفو

خميس, 11/10/2018 - 02:36

لا زلت أعتقد أن المعوق الإجتماعي هو المعضلة والعقبة التي تقف في وجه أي خطة للتقدم .

لأنه يعمل ذاتيا على تدمير البنى اللازمة للبناء .
وسأطرق هذا المنحى للإرداة الخفية التي تقف عائقا دون أي عمل وطني حقيقي .
وأدرك جيدا أنني لا أطرق في بنية هشة وإنما أتعامل مع بناء محكم ويعمل بمناعة متطورة .
لكنني على أمل بأن مشرط المعالجة الإجتماعية سيكشف عن طبيعة الأزمة الوطنية وسيسجل  حيثيات تسلحها وخطوط إمدادها .

من المعلوم أن أي مواجهة للأزمة ستحتاج بنية بشرية متماسكة حول رؤية واضحة .
وتماسك هذه البنية هو أول استراتيجية يمكن الرهان عليها ، إذ تكتمن الأعراف والقيم الإجتماعية الكثير من المخزون المدمر للروابط الشخصية والتي بدروها تؤثر على تماسك الكتل البشرية ضمن المؤسسة الواحدة .

نتحدث جميعا عن ضرورة احترام الآخر وتفهم نطاق بشريته ، كما نسوق - وبشكل يومي - لقيم التسامح والمحبة و ثراء الإختلاف .

نعبر عن كامل التقدير والإحترام في الوقت الذي ندرك نسبية الإلتزام ببواعث هذا الإحترام وما يعتري مستحقيه من زلل أو خطل .

لكننا - رغم ذلك - لا نقيد في الواقع أي التزام باحترام أي كان ولا تفهم الأخطاء أو مايصدر عن البشر - إلزاميا - منها .

فنحن نحتفظ بكامل طاقتنا لمحاسبة أي منا على خطأ واحد إتركبه أثناء مسيرته ، ليجد نفسه يعمر ويشيخ بالتزامن مع ذاكرة أخطائه وعيوبه .

يحدث أن يكذب أحدهم عليك لدوافع لا تتعلق بشخصيته وسلوكه وإنما للظروف دفعته لذلك .
قد تكذب زوجتك خشية إثارة غيرتك ، قد يكذب صديقك بدافع حبه لك ، قد يكذب إبنك خشية ارتفاع ضغطك ، قد يكذب زميلك تفاديا للتوبيخ ، قد يكذب زوجك مخافة فهم الحقيقة أو توظيفها بشكل سلبي ... الخ 

وقد يذيع أحدهم ما تعتبره سرا ولم يدرك أن سرك مما يحتاج للكتمان ، وقد يخذلك من تعتمد عليه عجزا أو غفلة أو غباء .. الخ 

لكن كل ذلك لا يعني أن هناك شخصا كذوبا ولا آخر ثرثارا تجب إهانته طول العمر بفعل إقترفه في حيث ما وبدافع ما .

لكل منا ما يدفعه للتحايل بنسب متفاوته ، ولكل مبررات لتحايله الذي لا يصدر عن دافع إجرامي ولا آخر سلوكي .

لنقم ميزانا للعدل في ذواتنا وبين معاييرنا الفردية ، لكي لا نقع في خطأ التواكل والنسيان وخسارة محيطنا الإنساني بلا مبررات أو طائل .

لأن بيئة الترصد والشك تهدم وتقوض كل بناء جمعي يحتاج للكتلة البشرية .

وأن لا نسلط سيف الإهانة والتوظيف على رقاب من مارسوا وجودهم كبشر وصدر عنهم في حقنا أو حق المجتمع ما لا نعتبره مناسبا أو صوابا  .

علينا أن نمنح حسن صنيعهم فرصة لمواجهة زلاتهم ، وأن نقيم الحجة بالشائع على النادر ، وبالأصل على الفرع وبالمتواتر على الشاذ .

ليس من المعروف أن نتمسك بالزلات ونسلطها على رقاب كرامة فاعليها ، ونستبيح بها كل تاريخهم وندمر كل حقهم في الإحترام .
من لا يتفهم البشر بهذا المعيار سيكون عليه أن يكون ملاكا أو في محيط من الملأ الأعلى ، ولن يكون .

ماذا حل بنا حتى وصلنا لهذه الدرجة من التحامل وتقصد وترصد زلات الآخرين ؟
لماذا ننتهك حرمات الشخص ونمتهن وجوده لمجرد أنه سجل في تاريخه زلة أو خطأ ؟

لما نستبيح كرامته وإنسانيته ونستشيع حرماته ونمعن في إهانته لمجرد أنه يختلف معنا في الرأي أو التوجه السياسي والفكري ؟

لماذا منح كل منا نفسه صك حصانة واستعلاء ربوبي لينصب نفسه قاضي آراء أو مرجع قوانين أو مرجعية حصرية للحقيقة والحق ؟

لما استبحنا حرمات الآخرين لمجرد أنهم تصرفوا وفق ما لا نهوى أو ما لم نستسغ ؟

لما تجرأنا على رصيد كرامتهم وشرفهم لنذلهم بزلاتهم اللحظية بشكل أبدي ؟

دعونا نعتقد بحريتنا في اتخاذ مواقفنا وفهمنا لما يصدر عن الآخرين ، ومدى قدرتنا على تجاوزه أو تفهمه .

وسيفضي بنا هذا الإعتقاد إلى احد خيارين :
إما أن نستوعب مبرراتهم في ارتكاب أخطائهم العفوية ( بحكم النقص البشري ) وأن نغلب تاريخ إصابتهم ونضجهم وصنائعهم وطباعهم ، التي غلبت مسار تفاعلنا معهم .

أو أن نقرر أن زلات غيرنا ليست لحظية أو أننا لا نتقبل بشريتهم ، وبهذا يمكننا أن نقرر الإنسحاب مع كامل التقدير .

لأن كامل التقدير مفهوم بيني بشري ، وهو بذلك يمكن أن يحصل دون تصور الكمال عنهم ، لأن الكمال ليس من صفاتنا كبشر ، بينما يمكن أن نمنح كامل التقدير لأي كان دون الإعتقاد بأنه لا يزل .
حتى لا نتحدث كثيرا عن قيمنا الراقية في ضرورة إحترام الآخرين بينما نعجز عن احترام أي كان .

إمنحوا الجميع حقهم في أن يختلفوا مع بعضكم ، أو يزلوا في حق البعض أو ينتابهم الخطل في تصرف ما .
فالكرامة ليست ثمنا يمكن انتهاكه مقابل خطأ 
والإهانة ليست أداة لإصلاح الناس ولا ترويضهم .

مالم نفعل فسيظل الحاق الوطني ساحة معركة والحاق الشخصي منطقة إمتهان .

" ليس حرا من يهان أمامه إنسان ولا يشعر بالإهانة " مانديلا 

فما بالكم بمن يمتهنها في حق الآخرين 

أشعر بالألم