الذكرى ال 63 لعيد الإستقلال الوطني ... قراءة في الأحداث والمحطات.

جمعة, 17/11/2023 - 15:34

تعد ذكرى عيد الإستقلال مناسبة وطنية هامة و حدث بارز يؤرخ لمنعطف تاريخي طبع مسار قيام الدولة المركزية.
يعكس رؤية عامة لحالة الوطن منذ الاستقلال إلى اليوم تتطلب استنطاق الماضي و استحضار الحاضر من خلال تجليات المنجز الوطني و ظروف المرحلة.
كما تشكل فرصة لإعادة شحذ الهمم للنهوض بالوطن و التحفيز على العمل و البناء في مختلف المجالات و الميادين.
إن نشأة العاصمة نواكشوط و قيام الدولة الموريتانية جاءت في ظروف خاصة ومن اللاشئ .
ففي خضم أخذ و رد بين الإرادة و الإصرار تم إعلان مدينة انواكشوط حينها عاصمة سياسية لموريتانيا من داخل خيمة وبر مضروبة لهذا الغرض فوق كثبان رمال متحركة في ظل غياب تام لأبسط مقومات الحياة و عدم وجود أي مظاهر لمؤسسات الدولة.
ما تم مراعاته في هذا الصدد، وخلال التحول السوسيولوجي في نمط الحياة، هو خصوصية المجتمع الموريتاني و ضرورة استقراره حضريا و استقطابه عبر المدينة الفاضلة.
هكذا كانت ظروف النشأة و تأسيس البلد.
صحيح ان المستعمر الفرنسي لم يترك أي أثر لبني تحتية و لا لملامح حياة داخل ربوع الوطن على غرار واقع بعض المستعمرات الفرنسية المجاورة و المحيطة بنا.
بقدر ما خلف آثار نهب ممنهج لثروات و مقدرات خيرات البلد طيلة الحقبة الإستعمارية و بعيد الإستقلال .
فكان من الضروري في هكذا ظروف أن تكون عملية تأسيس العاصمة و تشييد البلد مدعاة للإستقرار و التركيز في ظل مجتمع بدوي طبعه الترحال.
الذكري الأولي حملت جملة من القيم المرتبطة بالوطنية الحقة و المواطنة الإيجابية المتمثلة في الإلتزام و الوفاء ، الإخلاص و الصدق ، التضحية و الإيثار و نكران الذات.
تذكيرا للأجيال الناشئة بمدي معاناة الآباء من أجل الحصول علي الحرية و الإستقلال و لما يمثله هذا اليوم من رمزية تاريخية ذات دلالات عميقة.
و ضرورة غرس هذه القيم في نفوس الأجيال الصاعدة حتي تنموا فيهم روح المواطنة و الإعتزاز بالانتماء للوطن
للمساهمة ايجابا في بناء المسار التنموي و خلق القدرة لديهم علي تنمية البلاد و كسب الرهانات المتعلقة بالتنمية الشاملة و المستدامة من خلال إنزال مشروع المجتمع الحداثي الديمقراطي.
ففي ضوء الذكري الثالثة والستين لعيد الإستقلال المجيد و علي مدي العقود الستة و نيف الماضية .
مرت البلاد بالعديد من المحطات و المنعطفات التاريخية البارزة التي انعكست تراكماتها لترسم ما آلت إليه الأوضاع اليوم و التي يصفها البعض بالأسوأ و بالمتدنية مقارنة بأحوال بلدان مجاورة نالت استقلالها بالتزامن معنا رغم امتلاكها لموارد طبيعية أقل.
و بحكم ما تزخر به البلاد من ثروات متنوعة هائلة إضافة إلي نسبة كثافة سكانية قليلة.
1 - المحطة الأولي : مرحلة الحزب الواحد ( حزب الشعب ) امتدت منذ قيام الدولة المركزية 1960 م إلي أول انقلاب عسكري تشهده البلاد 1978 م كرست لحكم احادي مدني و واكبت صعود التيارات الفكرية و القومية التي كانت سائدة حينها في المشهد السياسي العربي و العالمي و التي كانت من تداعيتها ظهور حزب النهضة الوطني المعارض 
ذات التعاطف و البعد القومي العربي الذي قارع النظام انذاك في كل حركاته و سكونه و تعرض قادته و أعضاءه للمطاردة و الملاحقة و المضايقة و النفي تارة خارج الديار و أبشع حالات التعذيب داخل الشجون مهدت للعمل السياسي السري لاحقا.
إضافة إلي ظهور حركات زنجية مناوئة للمشروع القومي العربي و لترسيم اللغة العربية دستوريا ذات ميول فرنسية و بعد إفريقي ساهمت في تأجيج الأوضاع خلال احداث 1966م و لاحقا كان من بين مطالبها انفصال الضفة عن باقي أجزاء موريتانيا.
كما فشل بعض منتسبي الحركة من داخل المؤسسة العسكرية في الإطاحة بالنظام العسكري القائم حينها في اكثر من محاولة انقلاب ذات بعد طائفي. 
تمكن الرعيل الأول رغم ظروف النشأة و انعدام الموارد و الإمكانيات من تأسيس وطن من لاشئ .
كما تم إرساء نظام تعليمي عمومي مجاني قوي كان له الأثر الكبير في خلق جيل متعلم و تكوين و تأهيل كادر بشري مقتدر تولي زمام الأمور لاحقا في إطار مرتنة الوظائف.
و ما صاحب ذلك من غرس و تطوير لقيم المواطنة و حب الوطن و صون الوحدة الوطنية بما يحقق الترابط الإجتماعي في إطار الدين و حقوق الإنسان و قوانين الدولة.
ما ميز جيل التأسيس رغم المآخذ الكبيرة هو التمسك بالقيم الأخلاقية  و الثوابت الدينية و الوطنية.
و الترفع عن أكل المال العام و تغليب المصلحة العامة علي الخاصة.
2 - المحطة الثانية : مرحلة الحكم العسكري ( 1978 إلي 1990 م ) يجمع المراقبون بأنها أدخلت البلاد في مرحلة قاتمة و في دوامة من الانقلابات المتكررة و من اللا إستقرار وانعدام الرؤية الواضحة في تحقيق اي تنمية مستديمة و العجز في إحقاق العدل و صون الحريات وحقوق الإنسان في ظل طغيان المحاكم العسكرية.
3 - المحطة الثالثة : مرحلة التعددية الحزبية ( الديمقراطية ) تعود نشأة الأحزاب السياسية بشكل رسمي إلي عهدة الرئيس الأسبق معاوية ولد سيد احمد ولد الطايع و بالتحديد في تسعينات القرن الماضي حيث أعلنت البلاد من خلال دستور 1991 م عن نظام تعددي أجريت بموجبه أول انتخابات رئاسية في نفس العام.
و أسس لمرحلة جديدة من الديمقراطية تشكلت على شاكلتها أحزاب سياسية موالية و معارضة للنظام مرخصة و معترف بها رسميا طبقا للقوانين المنشئة للأحزاب و للأعراف الديمقراطية.
و إن كان بعض المحللين يري بأن معظم الأحزاب الحاكمة جاءت على مقاسات جلباب العسكر و بشكل متحور أسس وأرخ لكل مرحلة حكم أو رأس نظام.
 PRDS , ADIL , UPR, INSAF
دون أن تتغير الأوجه او اسماء الأشخاص و هكذا دواليك.
فالمتغير في المعادلة واحد .
تتغير في الشكل دون المضمون بخروج رأس النظام مطاحا به أو مغادرا لسدة الحكم كرها أو طواعية بحكم قوة الدستور .
أول من سيتناساه و يتنكر له إن لم يقاضيه حاشيته و محيطه السياسي علي غرار ما حصل في الحقبة الطائعية و مع الرئيس الأسبق السيد محمد ولد عبد العزيز، الذي كان بالأمس القريب قاب قوسين من الدفع به نحو مأمورية ثالثة مخلة بمواد الدستور المحصنة لولا قدرة قادر جعلته يرفض طواعية الوقوع في المحظور.
تصرف مشين كرس للحكم الأحادي في المراحل السابقة وخلال العشرية.
كما أسس لمجموعة من الممارسات خارج إطار القيم و الثوابت الدينية والوطنية خدمت الأنظمة المتعاقبة و زادت من حالات الغبن و التهميش و اتساع الفجوة بين طبقات المجتمع، كما وفرت بدائل قيم خاطئة اطغت على مختلف الحياة السياسية 
كالنفاق السياسي والنفوذ القبلي وانتشار الفساد و سوء الإدارة و استغلال النفوذ و تضييق الخناق على أحزاب المعارضة التي شكلت في مراحل سابقة  من مسار الأنظمة منافسا قويا مقارعا للنظام و للأحزاب الحاكمة.
سرعان ما تلاشت و تراجعت تلك القوة الخارقة في ظل دخولها  في هدنة و مغازلة مع النظام إضافة إلي القطيعة مع القواعد الشعبية في أحلك الظروف، والتمسك بقيادة حزبية واحدة دون غيرها منذ التأسيس مهيمنة و مسيطرة في كل الأوقات
4 - المحطة الرابعة : مرحلة العشرية أو ما بات يعرف بنظام العشرية في عهد الرئيس الأسبق السيد محمد ولد عبد العزيز .
رغم المآخذ وتحفظ البعض تميز عن بقية زمرة العسكر بتبنيه صناعة الانقلابات العسكرية، حيث أطاح بأول رئيس مدني منتخب هو المرحوم سيدي ولد الشيخ عبد الله.
تجاوز حدود اللباقة في التضييق على الخصوم السياسين والنيل من مناوئيه مما ولد حقدا عليه و تذمرا لدى البعض منهم. 
تقاطع مع نظام ولد الطايع في نقاط تلاقي هي : - 
- الحكم بيد من حديد
‐ طول فترة الحكم.
- حجم الفساد.
بينما اختلفا في طريقة الخروج من سدة الحكم.
و لد الطايع أخرج من القصر الرمادي بقوة السلاح ( انقلاب).
ولد عبد العزيز غادر القصر الرمادي بقوة الدستور ( ممنوع المأمورية الثالثة ).
ولد الطايع خرج صفر اليدين دون مال أو عقار.
ولد عبد العزيز خرج بتهم من قبيل الثراء الفاحش و تبييض الأموال واستغلال النفوذ و السلطة.
وهي بالمناسبة تهم شملت رئيسين لحكوماته السابقة و بعض اعضائها و مقربين وصهره في انتظار مآلات مسار و نتائج المحاكمة، إذ لا تنضج الشعوب و تتسع مطامحها لبناء حاضرها و مستقبلها إلا من خلال استحضارها لتاريخها و مقاربة لحظاتها النضالية و استخلاص العبر من مختلف محطاتها، تكريسا لما في لحظات الماضي والحاضر من قوة جذب باتجاه مستقبل يسعى للأفضل. 
5 -  المحطة الخامسة: النظام الحالي.
بالتأكيد ما طبع طيلة المرحلة الأولى من مأمورية رئيس الجمهورية السيد محمد ولد الشيخ الغزواني، فضلا عن ظروف الأمن والإستقرار و السكينة، هو الهدوء و الانفتاح العام على كل مكونات الطيف السياسي و تشكيلاته الحزبية و دأبه على مكاشفة و مصارحة الشعب
مما ساهم في خلق هدنة و تقارب في الرؤى بين النظام والمعارضة.
تزامن مع مرحلة جديدة من المشاريع والإصلاحات لامست طبقات المجتمع الهشة رغم ظروف و تداعيات جائحة كوفيد المتحور و انعكاس الحرب الروسية الأوكرانية المستمرة وتأثيراتها على أسواق المحروقات و الحبوب.
و بما أن للإصلاح بقية و للبقية مأمورية ثانية، فإن رئيس الجمهورية السيد محمد ولد الغزواني بصدد إطلاق وتدشين حزمة مشاريع تنموية و خدمية واسعة في إطار تخليد الذكرى الثالثة والستين لعيد الاستقلال المجيد لصالح ساكنة نواكشوط و بعض المناطق الهشة داخل الوطن ستقوده لزيارة بعض الولايات الداخلية وصفها البعض بالجولة ذات  الطابع الانتخابي، تأتي ضمن جهود التعبئة والتحضير للرئاسيات المرتقبة.
رغم التحفظ و المآخذ علي أداء الحكومة و الذي جاء دون المتوقع و باعتراف من رئيس الجمهورية نفسه فإن الزيارات الميدانية المتكررة لرئيس الجمهورية مكنت من الوقوف على الاختلالات  الحاصلة في بعض القطاعات الخدمية نتيجة التهاون والإهمال والتلاعب بمصالح الشعب و ما تلا ذلك من إجراءات ردع و تصحيح مناسبة و صارمة.
كما كشفت أيضا عن مستوى التأخر الملاحظ و التباطؤ الحاصل في إنجاز المشاريع التنموية و الخدمية و عدم التقيد بشروط الجودة.
مماسيخضعها لشروط إقصاء إن لم تستجيب للمعايير و الآجال المحددة سلفا.
بالمقابل بينت تقارير محكمة الحسابات حجم الفساد في بعض الدوائر الحكومية القطاعات و ما صاحب ذلك من إقالة للمتورطين من أصحاب الوظائف السامية في انتظار اكتمال المساطر و تحريك الملف قضائيا و ما قد يترتب علي ذلك  من أمور. 
في حين يرى بعض المراقبين للمشهد الوطني أن ما خفي من فساد أعظم في ظل تراجع دور و أداء المفتشية العامة للدولة و عدم تفعيل المفتشيات الداخلية و تحررها من التبعية المباشرة للقطاع في ظل ضعف الوازع الديني و الوطني وغياب الضمير لدى موظف الدولة.
لا شك أن ثلاثة و ستين سنة من قيام الدولة المركزية كانت كفيلة بالنهوض بالبلاد و العباد إلي بر الأمان والتصالح مع الذات و تجاوز الأزمات و العقبات ومرحلة البناء و التأسيس وعدم تكرار العودة إلى المربع الأول و تصحيح الإختلاللات البنيوية و التغلب علي النواقص و إرساء سياسات اقتصادية ناجعة و.إعادة ضبط الأمور و وضعها في قالب صحيح يؤسس لمرحلة جديدة من البناء و التشييد فما بني على باطل فهو باطل. 
تأسيسا لما سبق فإن موريتانيا أمانة في أعناق الجميع و حاضنة للجميع و بحاجة ماسة إلى سواعد جميع أبنائها نخبة ومواطنين عاديين، فاليد الواحدة لا يمكن ان تصفق لوحدها وعيب الدار على من بقي في الدار .
إن كل ما يحتاجه الوطن اليوم، أكثر من أي وقت مضى، هو الإرادة الصارمة و الجادة في الإصلاح و إحداث التغيير المنشود من خلال القطيعة التامة مع ممارسات الماضي وإرهاصاته و الإقلاع التام عن الفساد و تدوير المفسدين واسترجاع أموال الشعب المنهوبة و إرساء عدالة اجتماعية شاملة.
و إتاحة تكافؤ الفرص للشباب الصاعد ذات الكفاءات العالية للولوج إلي الوظائف و مصادر القرار و ضرورة تجديد الطبقة السياسية.
مما سيشكل حصنا حصينا في تسيير خيرات و ثروات البلد.
و يؤسس لنهوض اقتصادي نحو غد أفضل و حياة كريمة نزولا و امتثالا للآية الكريمة من سورة الرعد ( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم و إذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له و ما لهم من دونه من وال ) صدق الله العظيم 

وفق الله الجميع لما يخدم مصلحة الوطن و المواطن.
عيد استقلال مجيد.
    اباي ولد أوداعة.