الأمن القومي وتحدي الخطابات الفئوية والعنصرية

خميس, 20/05/2021 - 22:03

يدفع نقاش هذا العنوان المركب إلى البحث – في خطوة أولى - حول تعريف المكونات التي تؤلف هذا العنوان، أي المفاهيم الأربعة : (الأمن القومي ، الخطابات، الفئوية، العنصرية).

ويتشكل المفهوم الأول من المكونات اللفظية (الأمن) و(القومية) ، ويعني الأول: حالة الإحساس بالدفء والثقة والطمأنينة بوجود ملاذٍ من الخطر، والمكون الثاني: يتمثل في الموقف المترتب على امتلاك الذات (سيادة الدولة بالعدل) فالقومية مفهوم يرتبط بمفهوم الأمة من حيث الانتماء إلى شعب ذي هوية سياسية مشتركة وروابط موضوعية تجمع بين أفراده شعورياً وروحياً مثل: اللغة  والحضارة  والدين  والتاريخ  والجغرافيا  والأمن والمصالح، ولم يعد للون والعرق أثر يذكر في بناء هذه الروابط خصوصاً في ظل سيادة دولة العدل. 

والخطابات:  هي جمع خطاب وهو رسالة يتمّ توجيهها من المرسِل إلى المستقبِل لإيصال أو توضيح أو شرح نقطة معيّنة أو موضوع ما.  وينقسم حسب مضمونه إلى:

خطاب أناني:  وهو ما ارتبط بغايات ومطالب فردية أو فئوية أو عنصرية، ويتميز هذا النوع من الخطاب بخصائص الكراهية والتطرف في الفكرة أوالقصد أوالأسلوب، ويعتمد على تنوع الحجاج والغلوِّ والإغراء والتحريف والتزييف. 

وخطاب موضوعي: وهو الرسالة المعلنة الصريحة للقيادي الفاعل سواء كان فردا أو نخبة أو سلطة  وهو ليس مجرد كلمات أو تراكيب لغوية، وإنما هو أجندة سياسية ورؤية  إستراتيجية ومشروع أخلاقي يعكس مستوى التكوين والتربية والخلفية الثقافية لصانعيه ، ويؤدي أدواراً  سياسية واتصالية أساسية في صناعة الوعي وبيان الإستراتيجية وآليات تطبيقها وهو أداة الإفصاح عن غايات المجتمع ، وهو من حيث المصدر: رسمي ، أو مدني ، أو واقعي، ومن حيث الغرض: توجيهي، أو إصلاحي ،أو تغييري.

وأما المكونة الثالثة  أي الفئوية: فهي نزعة بدائية تنمو لدى فرد وتعزز بجماعة تشترك في الخروج على الثوابت والقواعد العامة لتعتنق عقيدة الانحراف وتتبنى أسلوب الوحشية وتتبع منهج الشيطانية في ممارسات مختصرة على مصالح أنانية ضيقة، ليس لها من مسوق ولا مشروعية إلا السعي لخلق الأزمات وتشتيت القوى  والاستثمار في ضعف المجتمع  لكسب أهداف أبعد ما تكون عن المصالح العامة للبلاد والعباد والبلاد.

 

 والعنصرية نوعان: عنصرية "علمية": وهي المساعي الجماعية لتحديد وتشكيل ادعاءات وفرضيات حول الاختلافات العرقية عن طريق العلم، رغم نقص الأدلة العلمية الفعلية التي تدعم هذه الادعاءات والفرضيات. فقد اعتقد المؤسسون الأوائل لنظريات العرق في الغرب بأن بعض الأجناس أدنى من غيرها، وبالتالي اعتقدوا أن المعاملة التفاضلية للأجناس لها ما يبررها حقا، وقد بُنيت هذه النظريات المبكرة علي فرضيات البحث العلمي الزائفة؛ وهي مخالفة لسنة الله في خلقه. لقوله تعالى: {{لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ في أحْسَنِ تَقْوِيمِِ}}. وقوله تعالى: {{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}}. وقوله جل من قائل: {{ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا.}}...

 ثُمَّ التمييز العنصري: وهو أيُّ قول أو فعل يفيد الكراهية أو التمييز أو الاستثناء أو التقييد أو التفضيل علي أساس العرق أو اللون أو النسب أو الأصل القومي أو الإثني، أو ترتب عليه قصد بتعطيل أو عرقلة الاعتراف بحقوق الإنسان والحريات الأساسية أو التمتع بها أو ممارستها، أو عدم المساواة  في المجال السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي أو الثقافي أو في أي مجال آخر من مجالات الحياة العامة لأن الاختلاف في طبيعة الجنس البشري ، وتَعَدُدِ صوره وأشكاله، جعله الله آية من آياته في الكون، يقول سبحانه وتعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَالِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ)، صدق الله العظيم.

وبالرجوع  إلى غايات البحث في موضوع "الأمن القومي وتحدي الخطابات الفئوية والعنصرية"، أقول – ولله الأمر من قبل ومن بعد-:  

لقد فَرَضَتْ تحولات جديدة إعادة النظر في مفهوم الأمن؛ نتيجة لتزايد نطاق التهديدات التي شكلت خطرًا على حياة الأفراد والمجتمعات مثل الحروب الأهلية، وانتشارالأوبئة، والفقر، والبطالة، والمرض، والانتهاكات اليومية لحقوق الفرد الذي لم يعد آمنًا حتى في بيته. ولذا أصبح الأمن لا يعني  ضمان استقرار مؤسسات الدولة بقدر ما هو المحافظة على التجانس المجتمعي للدولة وضمان أمن مواطنيها، باعتبارهم المتأثرين في المقام الأول بالانعكاسات السلبية لهذه التحولات التي تفرض البحث في طبيعة الإشكالات الرئيسية في المسألة الأمنية و التي من أهمها:

- طبيعة اللاَّأمن التي يمكن أن نعرف من خلالها مصدر التهديد، وبالتالي العمل على احتوائه. 

- المرجعية المعتمدة للتحليل (هل هي الدولة أم الفرد أم المجتمع)؟

- مسؤولية ضمان الأمن، والمقصود بها الجهة المسئولة عن السياسات الأمنية.

- وسائل ضمان الأمن، وهي الآليات التي توضع لاحتواء التهديد.

وقد أدَّى البحث في المسألة الأمنية إلى النظر في بناء مقاربة أمنية تتخذ من الفرد وحدة للتحليل، وأصبح ينظر إلى الأمن كمفهوم واسع يمسّ ويتأثر بكافة القطاعات العسكرية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية، ثمَّ مقاربة الأمن الإنساني لتحقيق الأمن الفعال للفرد والدولة، والسلم والأمن الدوليين... 

إلا أن المقاربة التي  تتخذ من فطرة الإسلام متمسَكاً، لا بوصفه ثابتا ومرتكزا  في هوية وفطرة الإنسان العربي والمسلم عموماً فحسب، بل لكونه - أيضاً – حلاً ومفتاحاً فطرياً يستجيب لمطالب التغيير والتطور البشري،  ويصون حرية وكرامة الإنسان - أياً كان هذا الإنسان - ويتيح للعقل البشري المساحة التي يتطلبها للقيام بكل عملياته الذهنية والحركية التي بفضلها يستطيع أن يبتكر ويجدد ويطور ويبني ويخطط وينظم، وتعتمد النسق التراتبي لثلاثية مبدأ الحرية  والعدالة الاجتماعية  والوحدة،  أساس ومرتكز الرؤية والممارسة في النهوض بالإنسان ضمن دوائر الانتماء المتجانس لهذا البلد العربي الإفريقي الإسلامي، كمجال لوضع أسس أي مشروع اجتماعي أو اقتصادي أو سياسي أو ثقافي يهدف إلى بلوغ غاية العيش الكريم والتمتع بالأمن والحرية في دائرة انتماء مستقلة وموحدة، تتحقق فيها شروط التوازن الاجتماعي والسياسي التي هي سماد تخصيب تربة النماء الاقتصادي والازدهار والرفاه البشري. 

قد تشكل نموذجاً فريداً في ميدان صياغة الإنسان الحر والإيجابي في تشكيل ملامح مجتمع التقدم والريادة... فبهذه المقاربة نتمكن من تحديد مجمل قواعد توازن القوى التي ينبني عليها توزيع السلطة والثروة بالقسط  في المجتمع ، ونضع مقاربة ضمان تبادل المواقع بين الأسباب والنتائج في معركة البناء والتنمية المستدامة على محور صيانة حق الفرد والمجتمع ، وإشاعة العدل والمساواة، ونتمكن من تحقيق أسباب اللحمة والتكامل بين مكونات المجتمع وصولا إلى الوحدة والاندماج...

وقد تهيئ لإنتاج معارف جديدة واكتشاف مقاصد وأحكام كانت غائبة وملائمة لطبيعة المجتمع، وتدشين ميدان خصب للاستثمار في مجال خدمة المشتركات والتدبر في أسباب النهوض واكتشاف شفرة الحل في عُقدِ حياة وواقع أمتنا وتسوية قضيانا الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وردم منافذ الاختراق والتدخل، والقضاء على أسباب التطرف والصراعات والفتن الداخلية التي هي أخطر وأفتك سلاح  يُوجَه لنسف الكيانات وتمزيق المجتمعات...

وقد تمنحنا الترياق والمَصْلَ الذي نبحث عنه وتحتاجه شعوب المنطقة لعلاج هذه الأمراض الاجتماعية الفتاكة، لتقدم لنا وصفة اجتثاث وباء الفئوية والعنصرية في ثلاث نقاط هي:

1- تحقيق مطالب الديمقراطية السياسية والاجتماعية أي الديمقراطية السليمة في:

-  تحرير الفرد من كل أشكال الاستغلال.

-  تكافؤ الفرص وتذويب الفوارق ومحو آثار الرق والتفاوت الطبقي. 

-  سيادة سلطة الشعب القائمة على التمثيل المعتبر للقوى المنتجة (العمال- الفلاحين- المرأة – الشباب)

-  حرية التعبير: الإعلام، الصحافة، النقد والنقد الذاتي...

-  تأهيل نظام التربية والتعليم لتمكين الفرد من القدرة على إعادة تشكيل الحياة.

-  بناء وتفعيل منظومة قانونية لمسايرة الديمقراطية السليمة والتعبير عنها.

-  إقامة عدالة هدفها الوصول إلى الفرد دون موانع مادية أو تعقيدات إدارية.

 2  - بناء وسيادة منطق خطاب وطني جامع:

أ‌- ومن شروط بناء هذا الخطاب:

▪︎  اعتماد جملة إصلاحات من أهمها:

-  إقامة نظام تعليم جمهوري يتكفل ببناء الروابط الاجتماعية العامة، ويقوم على صياغة الإنسان الحر الكريم القادر على التحرك نحو ما يجمعه ويحقق له غاياته المشتركة على الأقل في عنوانها الواسع.

-  إعادة النظر في حدود ومستوى خصخصة النظام الصحي،ورفع مستوى الرعاية الصحية كشرط لزيادة الإنتاج. 

-  التزام الدولة بحماية الحقوق الإدارية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية للمواطن لتعزيز روح الوطنية. 

 - الصرامة في الحرب على الفساد وإبعاد رموزه عن مواقع التأثير والتحفظ على الأموال المشبوهة.   

▪︎التسريع بتحقيق مطالب اقتصادية عامة مثل: 

-  انتشال القطاع الزراعي ومباشرة إعداد وتنفيذ خطة ضمان تحقيق الاكتفاء الذاتي الممكن في أفق ثلاث سنوات. 

 - السيطرة على الثروة السمكية وقطاع الصيد لتلافي هدر حقوق وإمكانات وطنية هائلة ظلت في مهب زوابع النهب والضياع. 

-  تصنيف الثروة الحيوانية وإدراجها في القطاعات  ذات الأولوية في مجال الرعاية والاستثمار. 

-  تشييد بنى تحتية متكاملة وكفؤة لازمة لرفع أداء القطاعات الخدمية ، خصوصاً في مجال النقل والتعليم والماء والكهرباء والصرف الصحي.

ب‌-  ومن ضمانات سيادة هذا الخطاب:

-  الفصل الكامل بين السلطة التنفيذية والسلطة القضائية، وحرية واستقلال السلطة التشريعية.

- تطبيق مبدأ العقوبة والمكافأة بتفعيل قوانين الردع وتشجيع فعل الخير والمبادرات الحسنة.

- إنشاء وتجهيز فضاءات ثقافية ومدنية في عواصم المقاطعات والمراكز الإدارية والتجمعات الحضرية.  

 

3- صياغة مشروع وطني يرتكز على: 

-  بناء جسور التواصل والأواصر بين مكونات الشعب و تحقيق مطالب ذالك التواصل وتلك الأواصر خدمة للقواسم المشتركة وتعزيزا للروابط الأزلية من ثقافات وعادات ومعتقدات وتاريخ وجغرافيا ضمن دائرة المجتمع الكبير.

 -  تنظيم حوار اجتماعي مدني يفضي إلى بلورة و بعث مستويات من الثقة والتوافق على القضايا الكبرى كالهوية والوحدة والاستقلال الثقافي والاقتصادي بعيداً عن منطق الاستعراض والاستقطاب.

صحيح  أنه لا بد من وعي بحجم هذه المشاكل، وأنه لا بد من تحديد بواعث تلك الخطابات الفئوية والعنصرية، وأنه كي نلامس وعياً حقيقياً بحجم  تحدي هذه الإختلالات الاجتماعية التي تبرز نتؤاتها اليوم كالطفح في جسد المجتمع الواحد، علينا أن ننشغل - قبل فوات الأوان- بنقاش أمورنا البينية وأن لا نتجنب طرح أي قضية للحوار فكل الآراء مقدرة وكل الخطوات الضرورية لازمة  لزوم ترتيب الأولويات ...

لقد أثبتت عقود من عمر الدولة الوطنية أننا بحاجة إلى تقييم أنشطتنا الفكرية وممارساتنا السياسية والحزبية وتقويمها لتكون مؤهلة للتفاعل بكفاءة مع الأحداث والتحولات الاقتصادية والاجتماعية.

 وتستوجب هذه الخطوة فك الارتباط مع بعض الأجندات ذات الوصاية إن لم نقل السلطان على توجيه الثقافة والقيم وحركة المنظومة التربوية لتظل متمسكة بدفة أداء النخب الثقافية والاقتصادية والفنية...

فإلى متى تظل تلح مطالب السيادة وتتعطل أسباب النهضة الوطنية...؟ أما آن لنا أن نستعيد الدور المفقود... ونتجاوز صورة المجتمع المأزوم...؟

ألم يحن بعدُ تجسيدُ الشعارات:  "وحدة الصف علاج الضعف". " الاستقلال غنى والتبعية فناء" . "وحدتنا كنفٌ ...وألواننا زخرفٌ". "العربية مُشترَكْ والفرنسية مَاهيِ لِي وُلاَهِي لَكْ".

محمد الهادي ولد الزين ولد الامام