سيدي ولد دومان يكتب عن رحيل المفكر محمد يحظيه ولد ابريد الليل

أحد, 17/01/2021 - 19:44

رحم الله الأستاذ الفاضل والمفكر الكبير محمد يحظيه ولد ابريد الليل

لقد كان رحمه الله رجلا فذا بكل المقاييس وعبقرية لا تتكرر في كل العصور….

كنت اسمع عنه كثيرا وأنا تلميذ في الإعدادية والثانوية ثم بدأت اكتشفه وأتعرف عليه من خلال كتاباته التي كنت أقرؤها بنهم لجودة أسلوبها وسلاسة لغتها وعمق أفكارها واستقرائها للتاريخ وصدق تنبؤاتها.

حتى أتيحت لي فرصة التعرف عليه عن قرب والاحتكاك به.

كان ذلك خلال الحملة الرئاسية لسنة 1997 حين عين الرئيس معاوية، حفظه الله، ضمن لجان حملته لجنة للتعبئة والتحسيس كان المرحوم محمد يحظيه رئيسا لها وكنت نائبه. وخلال اجتماعاتنا الأولى، اكتشف كل منا الآخر ونشأت بيننا علاقة من نوع خاص، مبنية على الاحترام المتبادل وتثمين المواهب والتقدير والإعجاب. كان بالنسبة لي ” اكتشاف الموسم ” تعلمت منه كثيرا وتقاسمت معه كل شيء، كنا نتفق في الطرح والتحليل وقد أعجبت به حد الاقتداء. وبعد اسبوع من الاجتماعات ووضع الخطط والبرامج، قال لي أريدك ان تشرف على هذه اللجنة وتتولى كل امورها ولا تراجعني الا حيث ترى ذلك ضروريا.

كان رحمه الله رحمة واسعة، يقول لي دائما إن ما يعجبني في ترجمتك،(كنت أتولى ترجمة بعض كتاباته) هو انك تكتب النص وكأني من كتبه بالعربية. تأتي بمضمونه وروحه. اعتقد أن ذلك بسبب تمكنك من اللغتين وموهبتك في الكتابة فأقول له إنك تبالغ أستاذي العزيز فالحقيقة ان قراءة وترجمة ما تكتبه متعة لا يضاهيها شيء، وجمال الترجمة من جمال اللغة المترجم منها. قال لي يوما وقد ذكرت له ما لاقيت من صعوبة خلال ترجمتي لأحد مقالاته، كنت اعرف انك الوحيد القادر على ترجمة هذا المقال لأنه مقال أدبي أكثر منه سياسي…..

ان الكتابة عن ظاهرة مثل ظاهرة محمد يحظيه وعن قامة بحجمه، تحتاج تأليف مجلدات لن تستوفيه حقه أو تحيط بمناقبه مهما كان حجمها وعددها. وإن كان في العمر بقية، سوف أساهم، إن شاء الله، بجهدي المتواضع في ذلك العمل الوطني الضروري. وقد أعددت لذلك خلال لقاءاتي الخاصة مع المرحوم، فأنا كنت أدرك في حياته، انه شخص غير عادي.

أما في هذه العجالة التأبينية فسأذكر بعض المناقب التي اطلعت عليها بنفسي واعتقد أنها غير معروفة عند العامة:

1- سعة الاطلاع: كان رحمة الله عليه ذا معرفة موسوعية؛ كان أديبا لبيبا ومؤرخا وفيلسوفا وصحافيا وسياسيا من طينة نادرة. لا أتذكر أني زرته إلا وجدته يقرأ كتابا ويستمع إلى إذاعة دولية. ورغم انه كان لا يخرج من بيته العامر إلا نادرا ولا يزور إلا بيوتات معدودة، كان دائما على اطلاع تام بجميع المستجدات ويحللها بعمق ويوضح أسبابها. وكنت أقول في نفسي من أين له هذه المعلومات التي قل من يعرفها؟ إنه من أهل ” الكشف ” ….

2 – القدرة الفائقة على التحليل المنطقي والاستشراف إلى حد ” الولاية ” او ” الكشف ” بلغتنا نحن أهل الصوفية…ولا عجب، فقديما قيل ” كاد العقل أن يكون وحيا ” ..

حدثني مرة عن حدثين لا يعرف لهما تفسيرا وقلت له إن هذا هو بالضبط ما نسميه ” الكشف ”

كان الأول في أواخر شهر أغسطس ( آب ) 1969 كان رحمه الله في سفر مع رفقة له إلى إطار وفي الطريق توقفوا للاستراحة واستظلوا بظل شجرة ليس ممدودا وبعد صلاة الظهر وخلال غفوة قصيرة، خيل إليه انه سمع من إذاعة BBC أن انقلابا وقع في ليبيا، نفذه ضباط أحرار وانهي الملكية. فاستيقظ وسأل من كانوا معه، فأجابوا أنهم لم يسمعوا شيئا من ذلك. وبعد أيام، قامت ثورة الفاتح وأذيع الخبر كما سمعه تماما.

والثاني انه رأى نفسه في مسيرة كبيرة ويحيط به شخصان معروفان لم يكن يتصور انه يمكن أن يسير معهما في اتجاه واحد- لأسباب لا أريد ذكرها- وبعد فترة نفذ انقلاب 1978 ونظمت مسيرة تأييد كبيرة كان المرحوم يتوسطها وهو محاط بذات الشخصين..

3- المعرفة الدقيقة بالمجتمع وتاريخه وثقافته والعلاقة الخاصة مع الأدباء وكبار الفنانين وذوي الرحم والضعفاء.

لقد اكتشفت انه ،رحمه الله، كان خبيرا بالموسيقي التقليدية( أزوان ) وكانت تربطه علاقات خاصة بكبار الفنانين أمثال الوالد سيداتي ولد آبه والمختار ولد الميداح ومحمد ولد بوبه جدو تغمدهم الله برحمته وسيد احمد ولد احمد زيدان أطال الله في عمره وغيرهم كثير. كما اكتشفت انه يخصص يوما من الأسبوع لزيارة الأقارب والأرحام ويواسي الضعفاء بطريقة تخفي يمينه ما جادت به عن شماله. رحمه الله رحمة واسعة وجعل ذلك في ميزان حسناته.

4- الوفاء الذي لا تشوبه شائبة للأهل والأصدقاء والرفاق.

أتذكر أنني سنة 1998 وخلال مراسيم دفن المغفور له بإذن الله، أخي الأكبر وأستاذي وقدوتي في الإدارة والتسيير، أحمد ولد الزين، رحمه الله رحمة واسعة واسكنه فسيح جناته، رأيت المرحوم محمد يحظيه يبكي بحرقة ملفتة…وبعد سنوات سألته عن سر ذلك المشهد الذي لا زال محفورا في ذاكرتي، فقال لي، رحمه الله ،وهو يغالب دموعه : أحمد هو أقدم صديق عندي Il était mon plus vieil ami.

فعندما كنت في السنة السادسة من السلك الابتدائي في مدرسة اكجوجت، التزم لي الأهل بجائزة مميزة إذا أنا نجحت في مسابقة دخول السنة الأولى من الإعدادية. وهي أن اقضي فترة” القيطنه ” في أطار وهناك كان لقائي الأول مع أحمد الذي نجح في السنة نفسها وكان يقضي العطلة الصيفية مع والدته. فكنا لا نفترق. وعند افتتاح المدارس، كانت الحافلة الحكومية التي تنقل تلاميذ أطار تمر باكجوجت لتنقل تلاميذه في طريقها إلى لقوارب ولما ركبت وجدت أحمد بين التلاميذ مع آخرين أذكر منهم الرئيس معاوية الذي كان يومها في السنة الثانية او الثالثة من الإعدادية. ومن ذلك التاريخ، ظلت علاقتي بأحمد ولد الزين كما هي ،صداقة حقيقية مبنية على الصدق والوفاء والإخلاص حتى توفي، رحمة الله عليه.

رحم الله الأستاذ الفاضل والمفكر الكبير محمد يحظيه ولد أبريد الليل واسكنه فسيح جناته لقد ترك فراغا لا يسد واحترقت بموته مكتبة غنية لا يمكن تعويضها. فلله ما أخذ وله ما بقي، وإنا لله وإنا إليه راجعون

نواكشوط 15 يناير ( كانون الثاني ) 2021.

سيدي ولد دومان.