متى ستتوقف الإساءة إلى اللغة الرسمية للبلد؟ – محمد الأمين ولد الفاظل
في الوقت الذي تستعدُّ فيه بلادنا (حكومة وشعبا) لتخليد الذكرى الرابعة والستين للاستقلال الوطني، وفي الوقت الذي تُحضِّر فيه الهيئات العاملة من أجل التمكين للغة العربية لتخليد شهر اللغة العربية في موريتانيا، في هذا الوقت بالذات تعرضت اللغة الرسمية للجمهورية الإسلامية الموريتانية للعديد من الإساءات من مؤسسات رسمية يُفترض فيها أنها تسهر على تطبيق القانون.
لم تسلم اللغة العربية في هذا البلد من الإساءة على طول السنة، وحتى في شهر الاستقلال وشهر اللغة العربية، فإنها لم تسلم من الإساءة، وسأكتفي هنا بتقديم ثلاثة أمثلة صادمة من تلك الإساءات المتكررة.
المثال الأول
للعلم، وعلم الشيء خيرٌ من جهله، توجد في موريتانيا هيئة رسمية تُعنى بالإشهار تدعى سلطة تنظيم الإشهار، وهذه السلطة هي المعنية بفرض تطبيق القانون رقم 017/2018 المنظم للإشهار، والذي تقول مادته 66 : ” تصاغ رسائل الإشهار على عموم التراب الوطني باللغة الرسمية واللغات الوطنية حسب الجمهور المستهدف، مع وجوب مراعاة سلامتها نحويا، ويمكن استخدام لغات أجنبية عند الاقتضاء…وتكون اللغة الأجنبية وجوبا تحت اللغة الرسمية أو اللغات الوطنية إذا رتبت اللغات بشكل عمودي من الأعلى إلى الأسفل، وتكون اللغة الأجنبية على اليسار إذا رتبت اللغات أفقيا من اليمين إلى الشمال”.
إليكم الصدمة الأولى: من مرَّ خلال هذه الأيام من أمام المقر الرسمي الجديد لسلطة تنظيم سلطة الإشهار، المسؤولة عن تطبيق المادة أعلاه على كل اللافتات الإشهارية على أراضي الجمهورية الإسلامية الموريتانية. من مرَّ من أمام ذلك المقر، وتوقف أمام لافتته المثبتة على واجهته الأمامية، فلن يُشاهد حرفا عربيا واحدا على تلك اللافتة!!
المثال الثاني:
كنتُ من الذين استبشروا خيرا بتعيين وزير الصحة الحالي على قطاع الصحة، ويُعد قطاع الصحة من القطاعات الحكومية الأكثر عبادة والأشد تقديسا للغة الفرنسية. استبشرتُ خيرا بتعيين الوزير الحالي لأني طالعتُ منذ فترة تعميما موقعا باسمه خلال فترة إدارته لمركز الاستطباب الوطني، جاء فيه، وبالنص : “عملا بمقتضيات دستور الجمهورية الإسلامية الموريتانية الذي ينص على أن اللغة الرسمية للبلد هي اللغة العربية أطلب من الجميع التقيد في المراسلات الرسمية داخل المؤسسة وخارجها وجميع الوثائق الإدارية باللغة العربية.”
لقد توقعتُ من هذا الوزير أن يحيي سنة حسنة بدأها الوزير الراحل محمد محمود ولد الديه في الفترة ما بين (1982 ـ 1984) لما تولى إدارة قطاع الصحة، ولكني بدلا من ذلك، فوجئت اليوم بهذه الصدمة، فإليكم الصدمة الثانية :
في يوم 18 نوفمبر 2024 أشرف معالي وزير الصحة على إطلاق مشروع “عناية الموسع” لتعزيز النظام الصحي من مدينة كيهيدي، وظهرت خلف الوزير عند افتتاحه للنشاط لافتة رسمية لا توجد فيها كلمة واحدة باللغة العربية، مع وجود عشرة أسطر أو أكثر باللغة الفرنسية!!!
لقد تعودنا من وزارة الصحة تجاهل اللغة الرسمية واللغات الوطنية في كل أنشطتها، وهي لا تتذكر لغتنا الرسمية ولغاتنا الوطنية إلا عندما تبلغ القلوب الحناجر خوفا من وباء أو جائحة، فخلال فترة جائحة كورونا نست وزارة الصحة اللغة الفرنسية تماما، أو كادت أن تنساها، وأخذت تستخدم لغاتنا الوطنية عند مخاطبة المواطنين في حملات التحسيس والتوعية ضد الجائحة التي نظمتها في تلك الفترة.
تصورا أن الوزارة أطلقت في فترة جائحة كورونا حملات تحسيسية باللغة الفرنسية فقط، والتي يجهلها أكثر من 90% من الموريتانيين، تصوروا ماذا كان سيحدث؟!
المثال الثالث:
وسنتحدث فيه وبدون مقدمات عن الصدمة الثالثة، فإليكم الصدمة الثالثة:
في يوم 18 نوفمبر 2024 سيبدأ ميناء نواذيبو المستقل استقبال العروض بخصوص مناقصة أعلن عنها في وقت سابق، واشترط ـ وكما جرت بذلك العادة ـ أن تكون العروض باللغة الفرنسية فقط.
فأيُّ صدمة أشد وقعا في النفس من أن ترفض مؤسسة رسمية استقبال وثيقة في شهر الاستقلال، لا لشيء، إلا لأنها كُتبت باللغة الرسمية للبلد!!!!!؟
وبالتأكيد فإن هذا الشرط مخالف للقانون من خمسة أوجه، وهو ما أكده منسق الشؤون القانونية في الحملة الشعبية للتمكين للغة العربية وتطوير لغاتنا الوطنية، الأستاذ محمد المامي مولاي أعل، والذي عدد أوجه مخالفته للقانون في النقاط الخمس التالية:
1 ـ مخالفته للمادة 6 من الدستور، التي تجعل اللغة الرسمية هي اللغة العربية؛
2 ـ مخالفته للمادة 66 من قانون الإشهار التي توجب صياغة الرسائل الاشهارية باللغة الرسمية أو اللغات الوطنية حسب الحاجة؛
3 ـ مخالفته لتعميم رئاسة الجمهورية رقم 32 بتاريخ 11 دجمبر 1972 الذي يمنع منعا باتا رفض استقبال العروض والطلبات والملفات المحررة باللغة العربية؛
4 ـ مخالفته لمبادئ قانون الصفقات العمومية وخاصة مبدأ حرية الولوج، ومبدأ مساواة المترشحين، وشفافية الإجراءات؛
5 ـ مستوجب للإلغاء على ما قرره القضاء الإداري المقارن في عدة قرارات في كل من: فرنسا والجزائر والأردن والمغرب وموريتانيا.
أشير بخصوص رفض العروض المكتوبة باللغة الرسمية للجمهورية الإسلامية الموريتانية من طرف أغلب ـ إن لم أقل ـ كل الوزارات والمؤسسات الرسمية، إلى أن الحملة الشعبية للتمكين للغة العربية وتطوير لغاتنا الوطنية قررت دعم ومؤازرة مؤسسة “خطوة للاستشارة والتسويق الإعلامي” في طعن إلغاء تقدمت به بخصوص مناقصة أعلن عنها الصندوق الوطني للتأمين الصحي في يوم 15 يوليو 2023، واشترط للمشاركة فيها، وكما جرت بذلك العادة، أن تقدم العروض باللغة الفرنسية فقط.
الملف يوجد منذ فترة طويلة لدى رئيس الغرفة الإدارية في المحكمة العليا، وما زلنا في الحملة ننتظر البت فيه.
أختم المقال بتنبيهين :
التنبيه الأول : أنه لا يمكن الاستمرار في التمييز بين مواد الدستور، فمواد الدستور يجب أن تُحترم بكاملها، ولم يعد من المقبول أن ترتفع الأصوات عند انتهاك إحدى مواد الدستور، وذلك في وقت يتم فيه تجاهل الانتهاك اليومي لمادة أخرى من الدستور، توجد في مقدمته، وأقصد المادة السادسة منه تحديدا.
لم يعد من المقبول أن تستمر الإساءة إلى اللغة الرسمية للبلد بعد مرور 64 سنة على استقلال البلاد، وبعد مرور ثلث قرن على المصادقة على دستور تقول مادته السادسة بأن اللغة العربية هي اللغة الرسمية للجمهورية الإسلامية الموريتانية.
التنبيه الثاني : أيها الموريتانيون استيقظوا وتوقفوا عن عبادة “الصنم الفرنسي”، ففرنسا اليوم لم تعد كما كانت بالأمس، ولغتها في تراجع، وحتى جيراننا من الأفارقة والذين لا يملكون لغة عالمية بديلة، بدؤوا يفكرون ـ بجد ـ في التخلي عن اللغة الفرنسية وإبدالها بلغة أخرى، بل أكثر من ذلك، فإن اللغة الفرنسية أصبحت مهددة حتى في قلب العاصمة باريس.
أيها الموريتانيون استيقظوا، من قبل أن تكتشفوا بعد سنوات قليلة أنكم أنفقتم الكثير من الجهد والمال في تعلم لغة لا مستقبل لها، فصنم اللغة الفرنسية آيل إلى السقوط بعد سنوات قليلة، وإذا كان لابد لكم أن تبيعوا لغة القرآن ولغة دستوركم بلغة أخرى، وبئس التجارة إن فعلتم ذلك، فلتبيعوها باللغة الإنجليزية، والتي هي لغة العالم في هذه الفاصلة من تاريخ البشرية، أما اللغة الفرنسية فقد أصبحت، أو كادت أن تصبح، من لغات الماضي.
حفظ الله موريتانيا..
محمد الأمين الفاضل
Elvadel@gmail.com