مقابلات
القيادي الناصري الوزير السابق محمد الحافظ إسماعيل: كل الأهداف التي بلورتها ثورة يوليو وناضلت لتحقيقها باقية في الوجدان الشعبي العربي وفي وجدان كل أحرار العالم
يخلد الناصريون في موريتانيا، كل عام، ذكرى ثورة 23 يوليو المصرية التي قادها الزعيم الراحل جمال عبد الناصر عام 1952، ورغم أن الفكر الناصري والتنظيم الوحدوي الناصري كحركة سياسية في الوطن العربي عموما وفي موريتانيا على وجه الخصوص جاء متأخرا على وفاة الزعيم الراحل جمال عبد الناصر، إلا أنه استقطب آلاف الشباب العرب في مختلف البلدان العربية وفي موريتانيا.
وهناك أسئلة كثيرة حول القومية العربية عموما والتنظيم الناصري بشكل خاص، يطرحها خصوم الناصريين، ويطرحها المواطن العادي الذي لا يعرف الكثير عن هذا التنظيم السياسي. هذه الأسئلة وغيرها توجهت بها التواصل للقيادي الناصري، والوزير السابق السياسي المخضرم السيد محمد الحافظ ولد إسماعيل، أحد قادة ومؤسسي حزب التحالف الشعبي التقدمي، فكان الحوار التالي:
- ما الذي تعنيه لكم ثورة 23 يوليو الناصرية كموريتانيين ؟
محمد الحافظ: بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيد العرب والعجم وأفضل خلق الله أجمعين، بخصوص سؤالكم، ما الذي تعنيه لكم ثورة 23 يوليو كموريتانيين؟ أقول إن ثورة 23 يوليو الناصرية بالنسبة لنا وبالنسبة للشعب العربي والشعوب الإفريقية وشعوب العالم الثالث وكل أحرار العالم تعني الكثير والكثير، فهي رمز للتحرر من الاستعمار وأعوان الاستعمار السائرين في فلكه، تعني التحرر السياسي والاقتصادي والثقافي، تعني بالنسبة لنا وبالنسبة للجميع ضرورة وضع أيدينا على ثرواتنا الوطنية، واستغلال هذه الثروات الضخمة والمتنوعة من اجل تقدم ورقي بلدنا وسعادة مواطنينا عن طريق توزيع هذه الثروات توزيعا عادلا، تعني بالنسبة لنا العمل من أجل توحيد أمتنا العربية لتواصل نشر رسالتها الخالدة، ولتكون قادرة على الدفاع عن نفسها.
كما تعني ثورة يوليو، بالنسبة لنا، ضرورة التكامل والتنسيق بين الدوائر الثلاثة، العربية والإفريقية والإسلامية، لتشكل مجتمعة قوة ضاربة على هذه الأرض، يحسب لها حسابها. كما تعني هذه الثورة بالنسبة لنا العمل المستمر والإعداد المتواصل سياسيا واقتصاديا وعسكريا من أجل تحرير فلسطين، كل فلسطين، من رجس الصهاينة الغاصبين تنفيذا لقوله تعالى: ” وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم …”
وتعني بالنسبة لنا، تطبيق لاءات الخرطوم الثلاثة، ” لا صلح، لا اعتراف، لا مفاوضات”. مع الكيان الصهيوني، وهو ما يعني عدم التنازل عن أي شبر من الأرض العربية المحتلة سنة 1948 وغيرها من الأراضي العربية الأخرى.
وتعني ثورة يوليو عبد الناصر بالنسبة لنا توفير كافة الحقوق السياسية والاقتصادية والثقافية للمواطن الموريتاني - ما هي، برأيكم، أهم الأهداف والإنجازات التي حققتها ثورة 23 يوليو عربيا وإفريقيا ودوليا؟
محمد الحافظ: إن أهداف ومبادئ ثورة يوليو منشورة في الكتب والمراجع ومعروفة لمن يود الرجوع إليها، ونذكر منها، في هذا المقام، المحاور التالية: - العداء للاستعمار، ويتجسد ذلك، كما سنرى، في:
- الدور الريادي الذي قامت به الثورة الناصرية في دعم الحركات التحررية في افريقيا والعالم الثالث وفي الوطن العربي.
- الانحياز للطبقات الشعبية والمنتجة كالعمال والفلاحين والموظفين، حتى سمي ذلك الانحياز الواضح حينها بالتحول الاجتماعي في مصر.
- إقامة ديمقراطية سليمة بجانبيها السياسي والاجتماعي،
- تحقيق تنمية مستقلة … إلخ
ولا بد من لفت الانتباه إلى أن عبد الناصر خاض معارك على جبهات متعددة، فقد استطاع عبد الناصر أن يخوض حربا لا هوادة فيها على جميع هذه الجبهات رغم تعددها وتشعبها، ففي الوقت الذي كان يواجه فيه معركة البناء الداخلية بمختلف جوانبها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعسكرية، كان يواجه الكيان الصهيوني الغاصب سياسيا وعسكريا، ويواجه معارك التحرير في كل من الوطن العربي والقارة الإفريقية والعالم الثالث، وكان في نفس الوقت يدفع ثمن مقاطعة الغرب والقوى الاستعمارية عموما لصالح العرب وإفريقيا والعالم الثالث. خاضت مصر عبد الناصر هذه الحروب في آن واحد وانتصرت فيها جميعا، ويشهد على ذلك التحول السياسي والاقتصادي والعلمي والعسكري الذي وصلت إليه مصر في فترة وجيزة. كما يشهد على ذلك النجاح منقطع النظير في طرد الاستعمار من الوطن العربي والقارة الإفريقية والعالم الثالث.
وهذا يجرنا إلى استعراض ما سألتم عنه من إنجازات الثورة الناصرية على المستويات العربية والإفريقية وعلى مستوى العالم الثالث، وسآخذ القارة الإفريقية نموذجا لنرى دور الثورة الناصرية على مستواها.
يقول عبد الناصر: “إن انتماء مصر لمحيطها الإفريقي يتجاوز الجغرافية والتاريخية التقليدية، حيث يعد هذا الانتماء مكونا رئيسا من مكونات الهوية المصرية على مر العصور، وعنصرا محوريا في تشكيل المعالم الثقافية للشخصية المصرية، ويجمع مصر مع إفريقيا التاريخ والإرث الثقافي المشترك…”
ويقول عبد الناصر أيضا: “كيف يمكن تجاهل وجود قارة إفريقيا؟ فلقد شاء القدر لمصر أن يكون لها نصيب فيها، وأن الصراع بشأنها سوف يؤثر على مصر سواء أرادت أم لم ترد “.
لقد لعبت ثورة يوليو الناصرية دورا هاما ومؤثرا في دعم حركات التحرر الإفريقية. وقد كانت انطلاقة فكرة التحرير الإفريقية من القاهرة في منتصف الخمسينيات، حيث وقفت ثورة يوليو الناصرية مع الثوار في كل من غينيا والكونغو إضافة إلى موقفها المناهض للنظام العنصري في جنوب إفريقيا. فكان لمصر عبد الناصر دور أساسي في دعم المؤتمر الوطني الإفريقي بزعامة نيلسون مانديلا، وكان مانديلا يشيد بدور مصر عبد الناصر في تحرير جنوب إفريقيا من نظام الفصل العنصري.
ونشير هنا إلى أنه قبل انطلاق فكرة التحرير من مصر كان عدد الدول الإفريقية المحررة قبل قيام ثورة يوليو أربع (4) دول فقط، وبفضل الثورة والثوار الذين تدعمهم مصر عبد الناصر تحررت ثلاثون (30) دولة إفريقية في عام 1963 أي بعد قيام الثورة الناصرية بسنوات قليلة.
وفي إطار الصراع مع الاستعمار في إفريقيا، أقامت مصر عبد الناصر علاقات وثيقة مع الدول الإفريقية المستقلة آنذاك مثل غانا وغينيا ومالي وغيرها، وقامت بتكوين كتلة الدار البيضاء في إطار دعم “لومومبا” في الكونغو ومواجهة المخططات الاستعمارية الهادفة إلى عدم السماح للكونغو بالاستقلال بسبب ثرواته الضخمة من الماس.
ومما يؤكد دور عبد الناصر البارز في دعم حركة التحرير الإفريقية ما قاله الزعيم الإفريقي كوامي انكروما من أنه بعد معركة السويس عام 1956 “بدأنا نتحرك لتحرير إفريقيا بمساندة ودعم كبيرين من جانب مصر عبد الناصر”
وبعد قيام كتلة الدار البيضاء، التي كانت أول كتلة الدار البيضاء، التي كانت أول اتحاد افريقي شكل تكتلا قويا يناهض الاستعمار، حاول الاستعمار بعد قيام هذا التكتل إقامة إفريقية موازية من الدول الإفريقية المرتبطة به. ولكن عبد الناصر نجح في إجهاض هذه المحاولة وتمكن من إقناع هذه الدول أن من مصلحة إفريقيا أن لا تكون هناك تكتلات متعددة وأن مصلحتها أن تكون لها منظمة قارية واحدة، وبذلك تم التحضير لتأسيس منظمة الوحدة الإفريقية، التي تأسست في 25 مايو 1963.
وقرر القادة الأفارقة عقد أول قمة إفريقية في القاهرة تحت رئاسة جمال عبد الناصر اعترافا منهم بدوره في تحرير القارة، ثم قرر عبد الناصر إنشاء لجنة لتحرير الدول الإفريقية التي لم تحصل على استقلالها بعد، وما يعرف عن جمال عبد الناصر، حرصا منه على متابعة قضية التحرير في إفريقيا بنفسه، انه لم يتخلف خلال عهده كله عن قمة إفريقية واحدة لمنظمة الوحدة الإفريقية. وقد كانت مصر عبد الناصر ملاذا وموطنا للعديد من الثوار حيث أنشأ جمال عبد الناصر في مصر مقرا دائما لهؤلاء الثوار، وقد أطلق على هذا المقر اسم “الجمعية الإفريقية” وكان هذا المقر يحمل أعلام ولافتات المنظمة الإفريقية.
وشهد هذا المقر توافد وفود عديدة جاءت إلى مصر لكي تتزود بالقوة المادية والمعنوية لتساهم بجدارة في تحرير القارة الإفريقية، وقس على هذا الدور الذي قامت به مصر عبد الناصر في تحرير الدول العربية. ودول العالم الثالث وهو دور معروف والحديث عنه يطول. - ما هي مواقفكم، كناصريين، من الاهتمامات اليومية للمواطن الموريتاني ومن القضايا الوطنية الملحة؟
محمد الحافظ: إن توجيه هذا السؤال للناصريين قد لا يكون واردا لأن مبرر وجودهم وشعاراتهم ومطالبهم المنشورة في أحزابهم ومنشوراتهم كلها من أجل الوطن والمواطن الموريتانيين. فالمواطن الموريتاني يجب أن يعيش في وطنه حرا كريما سعيدا وهذا يتطلب أن يكون الوطن الموريتاني مستقلا سياسيا واقتصاديا وثقافيا وأن توفر للمواطن جميع حقوقه غير منقوصة وما يعنيه ذلك من حصوله على تعليم مناسب مجاني في جميع مراحله، وحصوله على العلاج والرعاية الصحية بشكل مجاني، كذلك وأن يضمن العمل المناسب وأن ينعم بالحرية الفردية والجماعية ليتمكن من اختيار قادته ورؤساء ومثلين له بصورة ديموقراطية شفافة، وأن تصان وحدته الوطنية التي تضمن السلم الأهلي والاستقرار السياسي للوطن ويكون ذلك عن طريق نشر العدالة الاجتماعية بتوزيع الثروة توزيعا عادلا على المواطنين وعن طريق المساواة بين المواطنين على قاعدة: ” لا فضل لعربي على أعجمي ولا لأحمر على ابيض إلا بالتقوى” وطبقا للمعيار الشرعي الذي وضعه رب الخلق ” إن أكرمكم عند الله أتقاكم”.
وعن طريق الإنصاف حتى يشعر كل مواطن مهما كان مستواه ومهما كان لونه وعرقه بالسعادة في وطنه الذي لا غني له عنه…. إلخ - يتهمكم بعض خصومكم بالولاء لفكر أجنبي، وربما لجهات أجنبية، ما ردكم؟
محمد الحافظ: لا أعتقد أن الفكر يحمل جنسية معينة، فالفكر الإنساني يصلح للبشرية كلها خاصة إذا كان مصدره ومنبعه عربي إسلامي، أما إذا كنتم تقصدون وجود من يتهم الناصريين بالولاء لجهات خارجية، فإن الناصريين هم آخر من يمكن أن يوجه إليهم مثل هذا الاتهام، فلا يمكن بأي حال من الأحوال اتهام الناصريين في موريتانيا بالتبعية لجهات خارجية، لذلك الناصريين عموما وُجدوا وانتشروا بعد رحيل عبد الناصر، فكان ارتباطهم بالأهداف والمبادئ التي طرحها عبد الناصر وضحى من أجل تحقيقها، ولا توجد جهة لا تنظيمية ولا سلطة خارجية يتبعون لها ويأتمرون بأمرها. وقد رفضوا التبعية لأي كان ومسيرتهم تشهد على ذلك، فهذه التهمة لا يمكن إلصاقها بالناصريين والجميع يعرف ذلك جيدا. ومما يؤكد هذه الحقيقة أن جميع الأنظمة العربية وغيرها والتي تعاقبت على السلطة طيلة تاريخ الناصريين لا يرضى الناصريون عن سياساتها ولا توجهاتها ولا عن علاقاتها الخارجية ولا عن موقفها من القضية المركزية بالنسبة للعرب والمسلمين، قضية تحرير فلسطين والقدس والأقصى من رجس الصهاينة الغزاة، فمثل هذا الاتهام مردود وغير وارد على الإطلاق. - ما هو موقف الفكر الناصري من الإسلام وماذا حقق عبد الناصر للإسلام والمسلمين وماذا تقولون لمن يتهمونكم بالعلمانية الإلحادية؟
محمد الحافظ: إن مما يؤكد ارتباط المسيرة التحررية لعبد الناصر وصدقها وارتباط عبد الناصر بالإسلام ونظرته له ما يقوله عبد الناصر نفسه في هذا الإطار أولا وما تبرهن عليه إنجازات وممارسات عبد الناصر في هذا الإطار ثانيا. وما يشهد به علماء المسلمين لهذا القائد ثالثا.
وبالنسبة لعبد الناصر فإنه يقول عن الرابطة الإسلامية: “لقد ازداد إيماني بمدى الفاعلية الإيجابية التي يمكن أن يترتب عليها تقوية الرباط الإسلامي بين جميع المسلمين، فلا يمكن أن نتجاهل أن هناك عالما إسلاميا تجمعنا وإياه روابط لا تقربها العقيدة الدينية فحسب، وإنما تشدها حقائق التاريخ”
ويقول عصمت سيف الدولة المفكر الناصري في كتابه “أسس الوحدة العربية” عن علاقة الإسلام بالعروبة: “لم يكن الإسلام بالنسبة إلى العروبة عقيدة فحسب، بل هو عنصر من عناصر تكوينها القومي وكان جزءا من وجودها وبه تحققت وحدة الأرض ثم أخذت عنه لغتها الواحدة وصنعت في ظله تاريخها الواحد وأصبحت بذلك كله أمة عربية واحدة”.
ويقول عبد الناصر: “إن رحمة الله التي وسعت كل شيء قضت ولا راد لقضائها أن تهدي هذا العالم الضال وترده إلى الهداية والاستقرار فاختارت محمدا صلى الله عليه وسلم العربي اليتيم الناشئ في جوف الصحراء ليكون النبي الملهم والرسول الموحى إليه ليرد البشر إلى السلام والطمأنينة ولى التراحم والتعاون وإلى الإيمان واليقين، وكانت رسالة الإسلام من أشق الرسالات وأخطرها لهذا الجو العاصف الذي كان يجتاح العالم حينذاك، ولهذا التخلف المزري الذي اتسم به البشر آنذاك لكن الخلق العظيم الذي تخلق به الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم والصبر الجميل الذي تحلى به طوال حياته، والقوة الخارقة في الإعداد والتنظيم وما كان يمتاز به من بلاغة ومنطق مؤثر وجذاب كل ذلك مكن لرسالته وأصل لدعوته فآمنت به هذه الملايين من البشر إيمانا زاخرا لا يخبو ولا يفتر، وقد استطاع الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم أن يجعل دعوته مثالا لكل الدعوات ومنارا لمن أتى بعده من المصلحين، فقد كان خاتم الأنبياء وآخر الموحى إليهم من المرسلين، فجعل من حياته دستورا للحاكمين، ومن سيرته شاخصا يهتدي به الأخيار على مر الأجيال. لقد كانت حياته، صلى الله عليه وسلم متناهية في البساطة، غاية في السمو والترفع، فعاش فقيرا ومات فقيرا، وكان في ذلك مضرب الأمثال، وكانت سيرته حافلة بألوان التضحيات، فضحى بنفسه مرات ومرات، ضحى بنفسه عند إعلان دعوته وإصراره عليها وعدم الرجوع عنها على قلة الناصر وضآلة المال وقلة المعين، وضحى بها ليلة هجرته وفي أيام هجرته، وضحى بها في الغزوات التي دافع فيها عن كيانه وكيان دعوته. وكان دعوته، صلى الله عليه وسلم، من أقوى الدعوات لأنها لم تجعل حجابا بين العبد وربه ولا وساطة بين الإنسان ومعبوده، والله أقرب إلى مخلوقه من حبل الوريد، فقضى بهذه الدعوة على كل كهانة وواسطة وادعاء وإن أظهر ما في هذه الدعوة الاتحاد والتعاون، فالمسلم أخو المسلم والمؤمن للمؤمن….” ثم يقول: “حقا إن في هذه الدعوة الإسلامية دروسا وعبرا فلم لا نتخذ منها واعظا ومرشدا …” وقال عبد الناصر في آخر هذا السياق بعد دعوة العرب والمسلمين إلى الاتحاد والتعاون” … أن يكونوا يدا واحدة على من عاداهم مسالمين لمن سالمهم …. ” ثم قال: ” وليست هذه عبارات ألفظها من الشفاه وأرددها باللسان لكنها دعوة من قلبي المؤمن إيمانا عميقا بدعوة الإسلام التي هي دعوة القوة والسلام فهل تضعون أيديكم في أيدي، وهل تلبون هذه الدعوة الحارة من قلب مؤمن بالعروبة والإسلام، وليس يكفيني أن بلغت وأشهدت الله على أني بلغت ولكنني سأسعى ما حييت بكل ما في من قوة وجهد وعزم وإيمان لتصبح هذه الدعوة حقيقة لا ريب فيها، والله على ما أقول شهيد”.
وبالنسبة لشهادات العلماء المسلمين وتزكيتهم لعبد الناصر وإقرارهم بمنهجه وتشجيعهم لمسيرته بكل جوانبها القومية والإسلامية والتحررية الكفاحية من تحرير الأمة العربية وتوحيدها ورفع راية الإسلام وتمسك هؤلاء العلماء بعبد الناصر وإشادتهم بمواقفه في حياته وبعد رحيله، رحمه الله، فإنني سأختار شهادة علامتين جليلين، من أبرز علماء وصلحاء موريتانيا وربما علماء العالم.وهذا بإقرار الجميع، فلا يوجد أحد مهما كان عالما أو غير عالم يستطيع بموضوعية أن يزايد على هذين العالمين في فهم الدين والتمسك به والدعوة إليه. وهذان العالمان هما، العلامة الشيخ محمد سالم ولد عبد الودود “عدود” رحمه الله، والعلامة الشيخ حمدا ولد التاه، أطال الله بقاءه.
يقول الشيخ محمد سالم ولد عبد الودود “عدود”، رحمه الله، في عبد الناصر:
ومُدلّة بالحسن قلت لها اقصري —— إن الجمال، جمال عبد الناصر
بطل تغرد مصره في عصره ——– بجماله من بين كل معاصر
لله در ثقافة وقفت به ————— دون الطموح وفوق شأو القاصر
ألقت له مصر القياد فأصبحت ——- تدني جنى ثمراتها للهاصر
واليوم قد شمل الجمال رياضها —— حتى تنوع زيتها للعاصر
ويقول فيه أيضا:
لم تمت يا جمال إنك فينا —– خالد بيننا مع الخالدينا
أنت حي روحا ومعنى ولو —- وسدت تحت التراب دفينا
يا أبا خالد عهدناك بشا ——– في وجوه الزوار والوافدينا
يا أبا خالد أطلّ علينا —- ترى منا مسرة الوامقينا
قم نعانق فأنت حي فلا عذ —– ر واسمع واعين مستمعينا
يا أبا خالد لك العهد لا ننــــ —- ساك حتى نكون في الهالكينا
يا أبا خالد لك العهد لا نر—- ضى بصلح دون القناة وسينا
يا أبا خالد لك العهد لا نر—- ضى بسلم يذلنا ما بقينـــــــــا
يا أبا خالد لك العهد لا نســ — لم شبرا من أرضنا ما حيينا
ويقول محمد سالم ولد عدود في قصيدة أخرى قومية وحدوية تبين مواكبة هذا العلامة الجليل لما يجري في الأرض العربية والإسلامية من أحداث ومواقف تتعلق بالوحدة العربية وما تواجهه مصر عبد الناصر من معارضة في هذا الإطار، في هذه القصيدة يقول العلامة عدود رحمه الله في بيت لم أجد شطره الآخر والذي يمكن أن يُسأل عنه الدكتور الشاعر ناجي محمد الإمام، يقول:
قلت واسمي سالم نحن العرب …
ومن أبياتها:
ليس للرجعي فينا من نسب —- كل رجعي دعيُ في العرب
لم نزل في الشام نمضي قدما —- ليس يثنينا لغوب أو نصب
كلما جزنا ثنايا أرب —– بحثيث السير تقنا لأرب
قد رجونا مظهرا فوق السما —- لا نرى الجعدي إذ قال كذب
سوريا قد مزقت وحدتنا —– بانفصال لكن الوعد اقترب
وقاسم أقسم لا يصحبنا —- سوف يرضى قاسم بعد الغضب
وسعود وحسين معنا —– في جدال ولجاج وصخب
سُحُب قد عكرت أجواءنا —- سنرى الشمس إذا الغيم ذهب
ويقول العلامة الشيخ محمد سالم ولد عدود رحمه الله، معلقا على اتفاقية العار والخيانة، اتفاقية كامب ديفيد المشؤومة ومخاطبا جمال عبد الناصر:
قل نستمع واسمع نقل لك ما الذي — قد تم بعدك يا جمال المجلس
في مصر صارت لليهود سفارة — وخبا الحماس وضاع بيت المقدس
واستسلم السمسار بعدك واشترى —- ذلا بعز تلك صفقة مفلس
وأتى بوعد كاذب وصحيفة —- منها تضج صحيفة المتلمس
وقد قال لي من أثق به، ممن كانوا يسافرون مع العلامة محمد سالم ولد عدود رحمه الله، أنه جاء لضريح جمال عبد الناصر ووضع يده عليه وقال: “والله إنك لتعلم أني اعلم أنك تسمعني” وحكى إحدى القصائد السابقة.
أما العلامة الشيخ حمدا ولد التاه، حفظه الله وأمد في عمره، فقد قال، بمناسبة تخليد إحدى ذكريات جمال عبد الناصر:
يا باني المجد العظيم السامي —– يا صانع التاريخ في أيام
يا باني الوطن العظيم لأمة —- كانت تعيش بعالم الأوهام
علّمتنا من نحن، ما أهدافنا —- ما عزنا، ما ثورة الإسلام
أسّست مذهب كن أو لا تكن —- ومنعت منها ثالث الأقسام
علّمت الضاد من أصحابه —- وكتبته بالعز والإكرام
ناديت من هذا المحيط إلى الــ — الخليج بلادنا لا حقّ للأقزام
ووقفت والأعداء حولك حلقة — في موقف التفكير والإقدام
ما زلت تضرب والدخان سحابة —- حتى صنعت المجد في أعوام
حتى دعوك أبا العروبة ناصرا —- حتى دعوك محقق الأحلام
يا مصر صبرا فالنفوس جريحة — ترجو العزاء بساحة الأهرام
يا نيل عزّ المصريين وأمة الـــ —- إسلام بكل سيل طام
أجمال ندعو والدموع ذوارف —— ونرى فراغك في المكان السامي
فارقتنا في ليلة المعراج في ——- حفل من الأرواح والأجسام
سيظل شخصك في النفوس مصورا —- ويظل فكرك منبع الإلهام
في الساحة الكبرى وحولك أمة —- يدعون ناصر يا أبا الأيتام
في ساحة الحرب الرهيبة واقفا —- تبدو بوجه ثابت بسام
والمشكلات وقد تأزم أمرها —– أثبت فيه وشائج الأرحام
ولنا ببابك وقفة وترحّم —- بالصمت والرهبوت والإسهام.
وفيما يتعلق بالممارسات والإجراءات التي قامت بها الثورة الناصرية في مصر والتي تؤكد ارتباط هذه الثورة بالدين الإسلامي وتؤكد إيمان مفجر هذه الثورة بالإسلام فإن ذلك الارتباط والإيمان تؤكده الحقائق التالية: - بنيت في عهد جمال عبد الناصر آلاف المساجد والتي غطت مختلف أنحاء البلاد.
*كونه أول رئيس عربي مسلم أنشأ محطة إذاعية خاصة للقرآن الكريم - وأول رئيس جعل مادة التربية الإسلامية مادة إجبارية يتوقف عليها النجاح أو الرسوب
*و أول رئيس طوّر الأزهر وحوّله إلى جامعة عصرية تدرس فيها العلوم الطبيعية إلى جانب العلوم الدينية
*وهو أول رئيس أنشأ مدينة البعوث الإسلامية التي كان، ومازال إلى وقت قريب، يدرس فيها عشرات الآلاف من الطلاب المسلمين، وتضم طالبا قادمين من سبعين دولة إسلامية يتعلمون في الأزهر مجانا ويقيمون في مصر إقامة كاملة مجانا أيضا - وهو أول رئيس تمت في عهده ترجمة القرآن الكريم إلى أهم لغات العالم و وُزّع على نطاق واسع في أنحاء العالم
*وفي عهد عبد الناصر تم تنظيم مسابقات لحفظ القرآن الكريم على مستوى جمهورية مصر العربية والوطن العربي وإفريقيا والعالم الإسلامي والعالم الثالث، وكان الرئيس جمال عبد الناصر يشرف بنفسه على توزيع الجوائز على الفائزين في حفظ القرآن
*وتم في عهد عبد الناصر وضع موسوعة جمال عبد الناصر للفقه الإسلامي التي ضمت كل علوم وفقه الدين الحنيف في عشرات المجلدات وتم توزيعها في جميع أنحاء العالم
*كما تم في عهده بناء آلاف المعاهد الأزهرية والدينية في مصر، وتم افتتاح فروع لجامعة الأزهر في العديد من الدول الإسلامية - وتكفل عهد عبد الناصر بافتتاح معاهد أزهرية خاصة بالفتيات، وأقيمت مسابقات عديدة في مختلف المدن لتحفيظ القرآن للفتيات
- وفي عهد عبد الناصر طبعت ملايين النسخ من القرآن الكريم وأهديت إلى البلاد الإسلامية، وأوفدت بعثات عديدة للتعريف بالإسلام في كل إفريقيا وآسيا، وتمت طباعة كتب التراث الإسلامية في مطابع الدولة المصرية طبعات شعبية خاصة لتكون في متناول الجميع، وتم تسجيل المصحف المرتل لأول مرة بأصوات كبار المقرئين وتم توزيعها على أوسع نطاق في كل أنحاء العالم.
*وفي عهد عبد الناصر صدرت قوانين بتحريم القمار ومنعه، وبإغلاق كل المحافل الماسونية، وتم إلغاء تراخيص العمل التي كانت ممنوحة للنسوة العاملات بالدعارة والتي كانت مقننة في العهد الملكي ….إلخ. - ماذا تبقى من الناصرية ومن أهدافها ؟
محمد الحافظ: إن الأسئلة المطروحة والتي يُطلب من الناصريين الجواب عليها دليل هي في حد ذاتها على أن الناصري ما زال موجودا وحملتُه المؤمنون به كحل للمشاكل العربية والإسلامية في العالمين العربي والإسلامي وبسلامة نظرته للعلاقة بين الإسلام والعروبة وبارتباط مصالح الأمة العربية والقارة الإفريقية، والعالم الإسلامي والعالم الثالث عموما، وذلك اهتمام عبد الناصر بهذه الدوائر وسر عمله من أجل خلق كتلة عدم الانحياز.
فالمؤمنون بهذه التوجهات ما زالوا موجودين، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن المواقف التي عبر عنها كل من العلامة محمد سالم ولد عبد الودود “عدود” رحمه الله، والعلامة حمدا ولد التاه، حفظه الله، تدل على بقاء هذا الفكر القومي الناصري الذي يعني الإيمانُ به النضال المستمر من أجل التحرر من الاستعمار سياسيا واقتصاديا وثقافيا وإقامة عدالة اجتماعية وتحقيق الوحدة العربية الشاملة والتعاون الوثيق والتكامل بين الأمة العربية والقارة الإفريقية والعالم الإسلامي وتفعيل كتلة عدم الانحياز، وبكلمة واحدة فإن كل الأهداف والمبادئ التي بلورتها ثورة يوليو الناصرية وناضلت مع كل الدوائر المذكورة أعلاه من أجل تحقيقها باقية في الوجدان الشعبي وفي الشارع العربي وفي وجدان كل أحرار العالم ما دامت هذه القضايا مطروحة على جدول الأعمال الوطني والقومي