ماريو فارغاس يوسا وفردوسهُ الإيروسيُّ المفقود
نمر سعدي – فلسطين المحتلة (خاص/ التواصل)
يحتلُّ الروائيُ البيروفي المبدعُ والمثيرُ للجدلِ الحائزُ على نوبل الآداب لعام 2010 ماريو فارغاس يوسا مكانةً عاليةً ومهمَّةً على خريطة الأدبِ العالمي الحديثِ.. ويحتفظُ بلمعانٍ الأديبِ النجمِ المشاكسِ الاستفزازي والمسائل أبداً على مشهدِ الروايةِ في أميركا اللاتينيَّة خصوصاً وفي العالمِ عموماً.
فهو في نظري الذي قد أختلفُ مع غيري فيهِ من أهمِّ خمسةِ روائيين عالميين أحياء وينضمُ إليهِ في هذهِ القائمة جابرييل غارسيا ماركيز الكولومبي وأورهان باموك التركي. وهو أحد أروع الكاتبين بالإسبانيةِ ذاتِ الجرسِ الجميل والإيقاعِ المتواتر على الإطلاق.. وبما أنَّ الشاعرَ التشيلي بابلو نيرودا أقربُ الشعراءِ العالميين إلى قلبي فإنَّ ماريو فارغاس يوسا أقربُ روائي عالمي إلى نفسي الباحثةِ في رواياتهِ عن استيهاماتِ الحبِّ في مدلولهِ الجسديِّ.. وعن الجمالِ الصارخِ في كلِّ تهويماتهِ وإيحاءاتهِ ورموزهِ ويقاسمهُ أحياناً هذهِ المنـزلة الساحرُ بطريقةِ سردهِ التخييلي الكاتب الكولومبي غارسيا ماركيز.
وبما أنَّ يوسا أستاذٌ في الأدبِ الإيروتيكي الذي أخذَ بالرواجِ في الفترةِ الأخيرةِ فقد اعتبرتهُ الأبَ الروحيَّ والمرشد للكثير من الأدباء والروائيينَ العرب الذينَ ركبوا هذهِ الموجة لحاجة في نفسِ يعقوب ومنهم المغربية فاطمة المرنيسي الباحثة في تاريخِ الجنسِ عند العربِ وصاحبة كتب شهيرة في هذا المجال.. والسورية سلوى النعيمي صاحبة ” برهان العسل” والسوداني رؤوف مسعد صاحبُ “بيضة النعامة” والمغربي محمد شكري صاحب رواية “الخبز الحافي” الجريئة والصادمة الضاجَّة بالألمِ البشريِّ والبؤسِ الإنساني.
يتبنَّى يوسا في كتابتهِ فلسفةً تحتفي بالجسدِ الأنثويِّ وتقدَّسهُ بصفتهِ أحدَ أهمِّ الرموز التي تستندُ عليها فكرةُ السعادة الأبديَّة وبصفتهِ ملاذاً للإنسانِ المعاصرِ من أتعابِ المادَّةِ وهموم الحياة.. فماريو يوسا كاتبٌ ماجنٌ أبيقوريٌ حتى العظمِ وهذا ما جعلهُ ينقلبُ بعدَ ذلكَ على أستاذهِ الأديبِ الفرنسيِّ جان بول سارتر.. ونراهُ في بعضِ كتبهِ يذهبُ بعيداً في فلسفتهِ تلك وتعريتهِ لمكنوناتِ الجسدِ كما حصلَ في كتابيهِ الحافلين بفن الإيروسيَّةِ ” مديحُ الخالة” و” دفاترُ دون ريغو بيرتو” حتى يغوصَ إلى قرارٍ لا يفصل بينهُ وبين الأدبِ البورنوغرافي الإباحي سوى خيطٍ رفيع.
يوسا يختلفُ في أفكارهِ الماجنةِ عن الكثيرِ من الأدباءِ الذينَ تناولوا الإيروتيكيَّة في كتاباتهم. فهو يختلف عن هنري ميلر الكاتب الأمريكي مثلاً فهنري ميلر رغم علوِّ مرتبتهِ في هذا المجال إلاَّ أنَّهُ يبقى سطحيَّاً وعادياً في أغلبِ رواياتهِ الإيروتيكيَّة ولا يحمِّلُ السردَ فلسفةً راقيةً أو يستندُ إلى تناصٍ ثقافي تاريخي كما يحصلُ مع يوسا في مديحِ الخالة التي نشرها عام 1988 في غمرةِ عملهِ السياسي وسعيهِ لانتخاباتِ الرئاسة في بلدهِ البيرو بلد الحالمين وعاشقي الكواكب والجبال وشخصٍ يعدُّ المواطنين بالقمر.
هنري ميلر يضربُ على وترِ الجسدِ، وترِ الغريزةِ والشهوةِ الجسديَّةِ بينما يضربُ يوسا على وتَريْ الروحِ والجسدِ معاً ولهذا السببِ يغوصُ إلى أعماقنا اللا متناهيَّة ويقنعنا بما يقول.. لا سيِّما أنَّ لغتهُ ساحرة ولا ينقطعُ خيطُ التشويقِ في كلامهِ بالإضافةِ إلى ثقافةٍ شاملةٍ مذهلةٍ تقتنصُ ما طابَ لها من التراثِ الجماليِّ الإنساني
فهو مثقَّف موسوعيٌّ يجمعُ إلى الثقافاتِ القديمة ثقافةً حديثةً طالما حيَّرتني.. لهذا السبب نجدُ في رواياتهِ خلفيَّات لموروثٍ هندي أو صيني أو شرق أوسطي ونلمحُ أثر ألف ليلة وليلة واضحاً في الكثير من شطحاتهِ الجنسيَّة .
يوسا كاتب ذكيٌّ بامتياز وواصفٌ ماهرٌ ذو ابتكارٍ عجيبٍ ومثيرٍ صاحبُ طريقةٍ ومدرسةٍ في علمِ الجسدِ.. وهو أيضاً ساردٌ قلَّ نظيرهُ ينتقلُ من صورةٍ إلى أخرى ومن مشهدٍ إلى آخرٍ ببراعةٍ أسلوبيَّةٍ نادرةٍ وخفيفةٍ على القارئ.. وأعترفُ أنني أقرأهُ بتروٍّ بالغٍ لكيْ أصلَ إلى ما تريدُ عبارتهُ المجنَّحةُ والشفَّافةُ أن تحملهُ لي من رعشاتِ كهرومغناطيسيَّة باذخةِ الطاقة.
وكم اعترفتُ لنفسي بأنَّ الكتابةَ عن عبقريٍّ بحجمِ يوسا صعبةٌ للغايةِ لتفردِّهِ في عالمِ الروايةِ وتنوُّعِ خيالاتهِ وأساليبهِ وأفكارهِ.. حتى قرأتُ مقدِّمةً ضافيةً كتبها الشاعرُ والمثقَّفُ اللبنانيُّ الفذُّ اسكندر حبش لروايتهِ ” دفاتر دون ريغو بيرتو” التي صدرتْ في بيروت قبلَ بضعةِ أعوام بترجمة السوري صالح علماني.. فوجدتُ فيها ارتواءً سخيَّاً شافياً وعزاءً ما عن عجزي ووجدتُ أيضاً ما كنتُ أبحثُ عنهُ من ضالةٍ مفقودة. على ضوءِ تحليلٍ نقديٍّ يحسنهُ اسكندر حبش.
لا أعتقدُ أنَّ شغفَ يوسا بسارتر الأبِّ الروحيِّ للوجوديَّة قد أضرَّ بهِ كثيراً فسرعانَ ما عرفَ الشابُ طريقهَ وكوَّنَ ذاته الأدبيَّة متفلِّتاً من سطوةِ سارتر وفلسفتهِ الداعيةِ إلى الإلتزامِ بالقضايا الكبرى سياسيَّاً واجتماعيَّاً . فقامَ بإنشاءِ مدرسةً أدبيَّةً تسعى إلى تغييرِ الواقعِ عن طريقِ المتخيَّل والحلم.
عبرَ قراءةِ يوسا نجدُ تشابهاً ملفتاً بينَهُ وبينَ أدباءٍ باروكيينَ أو شهوانيين آخرين مثل الكاتب الفرنسي أناتول فرانس أو الروائي البريطاني غراهام غرين وغيرهم. يرجعُ هذا التشابهُ في نظري إلى إعجابِ يوسا بهؤلاءِ الكتَّابِ وبهذا النوعِ من الكتابةِ الإيروسيَّة التي أطلقَ عليها بعضُ النقَّاد مصطلح ” الكتابة الوقحة ” ولكننا الآن نطلقُ عليها مصطلح الكتابة “الإستفزازيَّة” أو الكتابة الجريئة المتحرِّرة.
شاعر وكاتب فلسطيني يقيم في الجليل