ثقافة وأدب وفن

بهجة الشعر زمن الحرب … قراءة نقدية لديوان شعر”غزة تنتظر خِلان القدس” للشاعر د.علي الجريري

أشعاره منسوجة بخيوط من ألم ووجع المواطنين الصامدين والصابرين في غزة، تستنهض الهِمم، وتبعث الأمل بالانتصار على الألم، والدمار، والوحشية

بقلم الكاتب: نصير أحمد الريماوي
أهداني د.علي الجريري مؤخرا ديوانه الشعري الثاني مشكورا، الذي حمل عنوانا ملفتا للانتباه، ومثيرا ومحفِّزا للتفكير، وفيه دعوة واستنهاض هِمم عشاق النضال من أجل القدس وغزة للخلاص من براثن الاحتلال الغاصب. كما تزيّن غلافه الأيمن حمامة السلام لقناعته بأن السلام هو الذي سينتصر في النهاية، بينما تطرِّز غلافه الأيسر صور الدمار الممزوجة بالألم في غزة..
يتكون ديوان “غزة تنتظر خِلان القدس” من (118) صفحة من القطع المتوسط، ويتضمن (42) قصيدة من الشعر الحُر. هذا العنوان الذي اختاره شاعرنا، لم يأتِ من فراغ، بل جاء معبَّرًا عن الواقع المأساوي المعاش خلال معركة” طوفان الأقصى” و المحارق والمجازر الوحشية التي نفذها وما زال ينفذها جيش الاحتلال الصهيوني المدعوم، أمريكيا، وبريطانيا، وفرنسيا ضد شعبنا في غزة هاشم ( المحافظات الجنوبية) وفي محافظاتنا الشمالية منذ السابع من أكتوبر عام 2023م. لقد جاء إصدار هذا الديوان متزامنا مع بدء الحرب العدوانية على شعبنا، أما ديوانه الأول فهو”أبجدية فرج الحافي” صدر عن اتحاد الكُتّاب الفلسطينيين في عام 1989م في الوقت الذي كان فيه شاعرنا أسيرا في معتقل النقب الصحراوي إبّان انتفاضة شعبنا الأولى ضد الاحتلال.
للحقيقة أقول: إن جهود شاعرنا الغزيرة والمتنوعة في مجال الفنون الأدبية: الشعر، وقصص الأطفال والفتيان، والحكايات الكوميدية، والنقد الأدبي، وكذلك تأليف الكتب الأكاديمية التي تُدرّس في جامعاتنا المحلية لغاية الآن- والتي بلغت في مجموعها(100) كتاب- هذا الإرث الثقافي والفكري الإنساني يجعلني غير قادر على إعطاء هذه الجهود حقها النقدي، وإنما تحتاج إلى ناقد محترف أكثر منّي.
من خلال قراءتي للديوان، وجدت أن سبب الاصدار، جاء بعد ضياع عشر مجموعات شعرية بفعل ظروف الاحتلال، بعدما كانت مطبوعة، ومحفوظة على جهاز الحاسوب، وحدث ذلك عندما اقتحم جنود الاحتلال منزله ليلا، وصادروا الجهاز، فضاعت المجموعات معه للأسف الشديد.
كان ذلك على إثر نشر قصيدتين له” القدس الذاكرة والهوية” باللغة العبرية ضمن كتاب “الترجمة الأدبية”، ترجمها كل من: “نايف خوري” و”راوية بربارة” في الداخل المحتل.
أما السبب الثاني المُحفِّز والأهم فهو: حرب الإبادة، والحصار، والتدمير، والتجويع، والتشريد التي شنها حلف الأطلسي، والصهاينة على شعبنا في غزة منذ السابع من أكتوبر الماضي.
وثالثا: ميوله الأدبية والإعلامية منذ وجوده في جامعة”دمشق” وحصوله على درجة البكالوريوس لغة عربية، وكان ينشر إبداعاته في الصحف السورية، وفي صحيفة “الشعلة” التابعة لاتحاد طلبة فلسطين.
لكن ظهرت بواكير تجربته الشعرية منذ نعومة أظفاره، عندما درس الشريعة في ثانوية الأقصى الشرعية الواقعة في باب السلسلة بالقدس، ونجح في الثانوية الشرعية، وبعدها بأربعة عشر يوما تقدم لشهادة الثانوية العامة – أدبي دراسة خاصة، ونجح أيضا في نفس العام..
لقد كانت شهادة الثانوية الشرعية تعادل الأزهرية، وتخوِّل حاملها بالإمامة، وعقود الزواج، والعمل كمساعدين في المحاكم الشرعية، وهذا ما أهَّل شاعرنا ليكون إماما في مسجد قريته “دير جرير”، وكان يُلقي بعض خُطب الجمعة على شكل قصائد شعرية على مسامع المصلين، ويستمد عناوينها من الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية الشريفة.
استطيع القول: لعبت ثقافته الدينية واللغة العربية دورا كبيرا في صقل موهبته الأدبية، مضافا إليها الواقع الفلسطيني المعاش المثخن بالجراح.


لقد استثمر” الجريري” في ديوانه، التراث الديني والشعري، ووظائف الأدب استثمارا إيجابيا، منطلقا من أن الأدب يُعتبر رسالة تربوبة، وتثقيفية، وإعلامية، وسياسية، وتعبوية، وتوعوية، وتحريضية في مقاومة الاحتلال..إلخ.
من يقرأ الديوان يكتشف أن شعر”الجريري” يمتاز بوحدة التفعيلة وتنوعها في القصيدة، وإذا اختار من الشعر القديم العمودي، فإنه يلجأ إلى تقسيم هذه الأبيات العمودية لتظهر منسجمة مع القصيدة الحُرة، وهذا الأسلوب قائم عند شعراء كُثر مثل: القباني، والبردوني، والسياب، والبياتي..إلخ. نرى ذلك في قصيدة”لا تغاري حبيبتي”(ص31) يقول:
كل النساء اللواتي أحبهن
جمالهن سيف صارم
وجمال حسنك
كامل لا يوصف
هنا في هذا التشبيه في الشعر العمودي المُقسَّم، المستهدف، هي “القدس” التي تَفجَّر لأجلها “طوفان الأقصى”.
أيضا، يمتاز شعره بعدم اللجوء إلى القافية المُقيدة، بل يلجأ إلى القافية الأقرب إلى الغنائية، وبتنوعها، بحيث يكون في القصيدة ثلاث قوافي منسجمة أو قافيتين أو واحدة مع الحفاظ على سلامة قيمتها النحوية. نجد ذلك في قصيدة “الكل في بلدي” (ص25):
كيف السبيل؟
عن السؤال
أين المسار؟
لا وقت في بلدي
كي أجيب
عن السؤال
إما قرار
أو نزال
أو زوال
لا شيء في وطني يقال
لا وقت كي أجيب عن السؤال
يا من يشير إلى الطريق
لاشيءيعنيلي البريق
قم يا أخي
هيا نكون مع الفريق
كي لا نتوه عن الطريق
لم يبقَ شيء غامض
كي لا تميز
عدوا من صديق
يظهرهنا تنوع القافية بثلاثة أشكال، يدعو فيها إلى الفعل، والعمل، والحث على الإنخراط في مواجهة خطر العدو الداهم، وانتهاء وقت الكلام والنقاش والجدال.
كذلك استخدم المصطلحات الإيجابية وتركه للكلمات البكائية، والشكوى، والنّدب والتركيز على الكلمات التي تبعث الأمل في النفوس، واستنهاض الهِمم، و استخدام التراث الديني والشعري الإيجابي بعيدا عن الهرطقة، والشعوذة، والقدح والذّم.
القارئ لشعره المميز، يلاحظ منذ الوهلة الأولى، أن المخاطب في قصائده هي شخصيات قِيمية أو من اصحاب الفضائل أو الرذائل.كما يمتاز شعره بسؤال الرغبة الخفي، والمقصود هنا، ما هي الرسالة التي يريدها في كل قصيدة ومن المخاطب؟
أيضا، تشمل بعض القصائد القصصية في الديوان قوانين القصة من حيث: قانون الافتتاحية، والشخصيات، والعقدة، والحل، ويترك الخاتمة في كل قصيدة إما مغلقة أو مفتوحة. وما ينطبق على قواعد القصة جعله بمهارة ينطبق على قواعد القصيدة وهذا يعود إلى عمق ثقافة وتجارب الشاعر.
من الجدير ذكره والملفت للانتباه، وجود النصوص العلاجية(العلاج بالنص) في بعض قصائده متأثرة بالقرآن الكريم، كون أن خلفية الشاعر أصلا، هي دراسته لعلوم الشريعة كما ذكرت آنفا.
استخدم” د.علي الجريري” في أسلوبه المحسنات البديعية، مثل: الطباق، والجناس، والتشابيه، والاستعارة، والكنايات، والتضمين، والاقتباس، وكونه ناقدا أدبيا حرص على ألا يقع في أخطاء فنية، وأهم شيء مراعاة جانب النقد الثقافي، وخاصة من ناحية تربوية. ففي قصيدته” أسألك البقاء”(ص27) أقتطف منها، يقول:
لك الوفاء ما حييت حبيبتي
روحي وعلى كفي
حملتها غَدارتي*
فكنت سرِّي وسعادتي
كوني بلا خجل
على عجل مثل القطار
كوني على سفر بلا سفر
وضح النهار
ولي خبر
ولها أمل
وطير يغني
يشرب قطرة ماء
من يدي
يطير على
على شجيراتي
يداعبها صباحا
ويسكنها ليلا
كي يكون النهار
هنا، يوجه الشاعر كلامه في هذه الصورة الشعرية الجميلة- التي استخدم فيها من المحسنات البديعية(تورية،وطباق، وسجع، وتشابيه) – للمناضلين وللوطن، والمقصود بالسفر هنا، هو الاستعداد للتضحية بالنفس، والرحيل إلى الآخرة، ويتغنّى بمتعة الجهاد لأجل الانتصار، وبالمقاوم الذي يصل الليل بالنهار يقاوم وشَبَهه بالطير في كل المحطات.
من الجدير ذكره، أن لجوء الشاعر لاستخدام المحسنات البديعية جاء لأجل إظهار مشاعره، وعواطفه الجياشة بهدف التأثير في النفس البشرية، ولأجل جمالية الزخرفة اللفظية والمعنوية في الكلام.
لا يفوتني أيضا، ذكر أن شاعرنا لجأ في قصائده إلى الغزل الوطني، وعكس بوضوح مدى عشقة لمدينة القدس التي تعتبر جزءا من عقيدتنا الإسلامية، وعلاوة على ذلك، إنه من مواليد القدس وعاش فيها في باب حطة..
نرى في قصيدة “غزة تنتظر” شاعرنا المبدع، يدعو فيها إلى استنهاض الهمم ضد العدوان الغاشم على غزة، مستخدما الأفعال الأمرية، التي نقلت لنا الحالة الانفعالية لشاعرنا، كما عكست قوة التمني لدية، والحث على المشاركة في الدفاع عن النفس أمام الخطر الداهم ..
قُمْ فانتصر
ماذا تنتظر؟
قُمْ بعون ربِّك
وانصر وانتصر
غزة تنتصر
كما استخدم شاعرنا في قصائده الأفعال المضارعة للتعبير عن الأغراض الشِّعرية من وصف لشجاعة المقاوم، وتضحياته، وثباته، والفخر بصموده البطولي دفاعا عن الوطن، وجاء استخدامها أيضا للدلالة على وقوع الحدث في الزمن الحاضر..
غزة تودع الشهداء
في عز وفخر
وتمضي نحو المجد
تنصر وتنتصر
أما في قصيدة” معركة عناة”، فقد استخدم شاعرنا الفعل الماضي، الذي ساهم في سرد الذكريات والأحداث، وجاء توظيفة للآلهة الكنعانية “عناة” – التي انتشرت عبادتها في كنعان، وخصوصا في مملكة أوغاريت في سوريا خلال العصر البرونزي- ليرمز بها إلى شمولية ووحدة كفاح المقاومة: الفلسطينية، واليمنية واللبنانية، والعراقية( محور المقاومة) التي غنّت أغنية النصر على المُحتل، واقتحمت جدار الموت، ويظهر ذلك جليا في الأبيات التالية:
غنّت عناة
أغنية النصر
وصلت ألحانها
كل الأحرار
اقتحمت جدران الموت
هزمت لطمت وجه الظُلم
أذلت طغيان المحتلين
هربوا تاهوا
في الصحراء
سقطت أسطورة محتل
والسابع من أكتوبر
عاد يزلزل
عرش النازيين
معركة عناة
نزلت فوق الشاطئ
ساحل المتوسط
هنا عزم الثوريين
ومجد الغزيين
وإرادة شعب لا يهزم
وعناة تعود تقيم مأدبة
حمدا بنصر إله البعليين
في معركة ملحمية
عشتم قوما جبارين
استطيع القول: إن شعر ” علي الجريري” هو وطني صادق ملتزم، ويجعل القارئ يعيش الحدث، ومتصورا لما يريد نقله من مشاعر وأحاسيس وانفعالات وجدانية في شكل جميل يمرح بها الخيال ويستوعبها العقل، ومليئ بصور التحدي المتكررة في شعره.
لقد وثَّق شاعرنا المُبدع في ديوانه المذكور لحظة تاريخية بكل تفاصيلها من معاناة شعبنا تحت الاحتلال إبّان معركة طوفان الأقصى، ونسج أشعاره بخيوط من ألم ووجع المواطنين الصامدين والصابرين رغم الدمار والمجازر والمحارق، ويفضح استخدام القنابل الفسفورية ضد الأبرياء المحرَّمة دوليا. في قصيدته “جباليا مدينة مجلجلة”، يقول:
أول الانتفاضات
وآخر مفخرة
لم تسمع الآهات
ظلّت تنوء بحملها متجبرة
سيل من الغارات والهجمات
حمم من قنابل الفسفور
والقتل والدمار
باتت مدمرة
وفي قصيدته”حي الرمال وتل الهوى” يقول:
ماذا جرى؟
حتى ترى طفلة
دمار بيتها
أشلاء أبيها مبعثرة
وأهلها تحت رُكام بيتها مقبرة
وتدعون حضارة ومفخرة
يا عصبة الإجرام هذه مجزرة
هذا الجهد المشكور يعتبر إضافة نوعية إلى المكتبات العربية، والثقافية، والجامعية والمدرسية، وهام لكل الباحثين، والدارسين، والمهتمين. إنه بهجة الشعر زمن الحرب.
7/5/2024م*غَدارتي: قنّاصتي

زر الذهاب إلى الأعلى