ثقافة وأدب وفن

الانفجار الروائي العظيم ودلالاته

فراس حج محمد / فلسطين (خاص – التواصل)

لا شيء أكثر انتشاراً من الرواية، ومن الصعب السيطرة على المشهد الروائي. هذا مرتبط بطبيعة الحال بسيطرة النزعة العقلانية عند الطرفين المحكومَيْن بعملية الكتابة، الكاتب نفسه، وقارئه المحتمل. فكلاهما يتجه نحو المناقشة الهادئة الهادفة للأفكار التي تغلب عليها المنطقية والذهاب نحو آليات الإقناع، بغض النظر عن الإجادة، فهذه مسألة تخص الحكم على المكتوب نفسه وأدواته وصياغاته. بل إن عناية الروائي بالنزعة العقلانية وإنشاء الروابط التي تقوم على الإقناع من أهم معايير جودة الرواية.
لقد عززت الرواية الاتجاه السردي عند الناس هذه الأيام، فعدا حبهم لقراءة الرواية، فهم يحبون الاستماع إلى القصص، وروايتها وتأليفها واختلاق الإشاعات، وقلّ ارتباطهم بالموسيقى والأغاني، وارتبطوا أكثر بالمسلسلات والأفلام وحتى الدعايات والقصص القصيرة والنكت العابرة والأخبار بشتى أنواعها. فالمجتمع صار مجتمعاً روائيا بامتياز. أو لعلّ المجتمع هو رواية بحد ذاته، فجاءت الرواية لتتماهى مع طبيعته هذه وتعبّر عنها، متأثرة به، ومأثرة فيه.
من أبرز علامات المجتمع الحي توسّع المعارف، فيصيبها الانفجار أكثر بكثير من الانفجار الروائي، بل إن الرواية تابع متلق للانفجار المعرفي، وتحرص على أن تتمثله في بنيتها، فقد استقرّ أن الرواية مشبعة بالعلوم الإنسانية والعلوم الطبيعية، وعلوم الطاقة الحيوية والصوفية، فلا يمكن للرواية إلا أن تنهل من كل هذا الدفق المعرفي بطريقة هاضمة، فكل رواية هي في حقيقة أمرها تقدّم اقتراحها لفهم هذه المعارف باتصالها الحيّ في بنية السرد الاجتماعي واللغوي المحدد بحدود الرواية المكتوبة، فهي- إذاً- من باب آخر رؤية تاريخية لفهم الأفكار في هذا السياق الممكن تحققه فنياً، وليس بعيدا عن الواقع.
قليلون هم أولئك الذين يحبون الاستماع إلى الشعر أو قراءته، وأظن أنهم في تناقص، وتحوّل الشعر إلى أن يكون في المرتبة الثالثة أو الرابعة في سلم الإبداع، لأن الشعر بطبيعته وتركيبته ولغته استبطاني روحاني أو ذاتي، ليس معرفياً بالدرجة الأولى، فهو لا يعتمد على الانفجار المعرفي، وإنما يعتمد على الإحساس الذاتي بالكون، وهذا بطبيعته فردي، وبعيد عن طبيعة المجتمعات اليوم الزاخرة بالمعرفة والسرد المسيطر على حياتها من أول ساعات النهار حتى يُؤْون إلى فُرُشهم، وأشدّ ما لاحظته عند الكثيرين من القراء والزملاء نفورهم من الشعر وقراءته، لكنهم يقبلون بشغف على قراءة الروايات واقتنائها.
الرواية جعلت النزعة الفردانية ذات معنى معيّن، بمعنى أنها جعلت الفرد سائرا بفلك المجتمع الذي يحيا فيه، ومنتميا إليه، لكن دون أن يمنحه حق السيطرة عليه، وإنما انتماؤه لما في هذا المجتمع من أفكار ناظمة وسائدة ومتقبلة، قائمة على أن الفرد حلقة في سلسلة حلقات، هذه الكيفية جعلت له أفقا خاصا به، دون أن يتخلى عن المجتمع، فهو ابن للمجتمع وخاضع لقوانينه ويمارس حياته وتتشابك مع غيره مع وجود الإحساس بالفردانية القائمة على تبادل المصالح أولا وقبل كل شيء، وليس ليكون الفرد “عوداً من حزمة الحطب” الاجتماعية، لا شكل له ولا رأي ولا هدف إلا أن يكون جزءا أصيلا ذائبا في الكتلة الاجتماعية، كما هو في المجتمعات القائمة على العلاقات القبيلة التي جسّدها الشاعر قديماً بقوله: “ما أنا إلا من غزيةَ إن غوت غويتُ وإن ترشد غزيّةُ أرشدِ”. هذه النزعة لا تتوافق والرواية إطلاقا ولا يمكن لها أن تنتج رواية مهمّة، إلا من أراد أن يكتب رواية من خارج هذا المجتمع ليصفه وليتحدث عنه، أما هو نفسه لن يكون مجتمعا روائياً، فهو يفتقر إلى التعددية والفردانية والنزعة العقلانية ولا يبني آليات الإقناع بين أفراده.
ربما يتصور شخص ما أن النزعة الفردانية تغذي عند الفرد الإحساس الشعري، لا الروائي، وبالتالي يجب أن يكون العصر عصر شعر لا عصر رواية، إلا أن هذه النزعة في عمقها ربطت الفرد بالقانون والنظام وحصوله على مصالحه والمطالبة بها، من خلال النظام المطبق في الدولة، بمعنى آخر جعلت الفرد يشعر بقيم عليا عامة مجردة لا جماعية محكومة بالعواطف القومية كما يحدث أيام المد القبلي. فلذلك الفردانية تغذي في الفرد الشعور بأهمية العقل والتفكير العقلاني، وأهمية النظام والانتظام في فلك أكبر مع المحافظة على استقلاله ضمن تلك الحلقة التي يوفرها له ذلك المجتمع، وهو بهذه الحالة أصبح فردا روائيا يميل إلى السرد والقصص والتعبير العقلاني لأنه شخص مستقل في مجتمع تسوده قيم عليا، مستقرة وثابتة، لا تخضع للأمزجة الخاصة والتقلب الانفعالي، فالفردانية تغذي في الشخص بحثه عن كل ما يوفر له الثبات في العاطفة والتفكير، وهذا يجده- في الغالب- في الفنون السردية، وخاصة في الرواية.
لا بد من ملاحظة أمر آخر مهمّ جدا، ساعد على هزيمة الإحساس الشعري وأهميته، وتسييد الرواية على عرش الكتابة، هذا الأمر هو التفوق الهائل للعلم الذي جعل مسألة الخيال؛ التصور الشعري البلاغي المحلق مسألة معدومة الفاعلية، فما وصل إليه العلم اليوم من تقنيات واكتشافات وصناعات يفوق القدرة على التخيل الإبداعي، فصار العلم اليقيني المباشر أكبر من الخيال، فتضاءلت أهم تقنيات الصناعة الشعرية، فصار الشعر باهتا لأن ما اعتمده من قدرة تخيلية أصبحت منتهكة ومحدودة وغير مدهشة، فأفقد العلم الشعر أهم مجالات صناعته. في حين أن العلم وتطوراته الهائلة مع ما صاحبه من انفجار معرفي أشرت إليه أولا جعل الرواية تنبت في تربة خصبة لأنها معنية بالتفكير العقلاني للنزعة العلمية وكيف يمكن أن يؤثر العلم وما معه من انفجار معرفي وتقني وتكنولوجي في حياة المجتمع وعلاقات أفراده.
هذه الفكرة من التشابك المعقد لا يستطيعها إلا الفن السردي الروائي، فهو يبني هذه العوالم السردية بناء على ممكن عقليّ مبني على أسس علمية، وليس أمرا ذاتيا يقول فيه كلمته ويمضي في المجتمعات غير المتطورة علمياً ومعرفياً وتكنولوجياً، في هذه المجتمعات يصبح الشعر ضروريا ولازما؛ لأنه يعتمد على ضخ الأفكار دون أن يكون هناك توقع أو أفق لمناقشتها، أما في المجتمعات الما بعد صناعية فالرواية هي حاملة أفكارها والنقاش حولها، لأنها لا تحتاج إلى خيال الشاعر، وإنما تحتاج إلى عقل الروائي وفلسفته وتفكيره في معالجة كل تلك القضايا المستجدة في المجتمع، وتستلزم الحوار والمناقشة.
وعلى الصعيد التقني في ما يخص رؤية الكتابة نفسها وصناعتها وآفاق التشكيل اللغوي، فإن الرواية تختلف في بناء النموذج الروائي كليّة، أحداثاً وشخصيات، وحياة محتملة كاملة، وسأقدّم مثلا في الاختلاف يتمثل في صناعة الشخصية الروائية، والشخصية في الشعر عن طريق النمذجة؛ أي أن تكون الشخصية نموذجا في ما تدل عليه من أفكار.
يشمل اختلاف النمذجة في الرواية عن النمذجة في القصيدة الشعرية المفهوم والبناء، على الرغم من أن كلا النموذجين يسعى لأن يكون متسعا ممثلا للفكرة سلبا أو إيجابيا، إلا أن النموذج الشعري هو نموذج تصوري وهمي غالبا، يُبنى على الورق من أجل حاجة فنية، فالمرأة في الغزل والممدوح والمهجو هم نماذج ورقية لا نراها ولا نسمع صوتها لذلك تظل نماذج صامتة، تبنى في ذهن الشاعر لتذهب إلى ذهن القارئ.
انتبه إلى هذه الفكرة للشاعر الفلسطيني مريد البرغوثي في قصيدة له ذات دلالة ممتازة على هذه الفكرة، يقول عن نمذجة المرأة في قصائد الغزل: (من قصيدة الحب، الأعمال الشعريةـ، بيروت، 1997، ص 222- 223)
الشِّعر يحتفي بحلوةٍ وحيدة المِثالِ والمَثَلْ
كأنها مرشوشةٌ بالسحر أو بالنُّورْ
من أين يأتي كاتبو قصائد الغزل
بكل “معبوداتهم” إذن؟
من أيّ كوْكبٍ بَناتُهُ كواكبْ!
فلا هناك مَنْ على خُدودها حَبُّ الشبابِ، صُدفة،
أو شَعرها مجعَّدٌ أو سنُّها مكسورْ
ولا هناك من لها وظيفةٌ ولا عملْ
ولا هناك من على عيونها نظَّارةٌ،
أو صدرها ململمٌ صغيرْ.
وليس بينهنَّ واحدة
تتابع الأخبارَ أو تُطالع الجرائدْ
الحب في الحياة غير الحب في القصائدْ.
ولا يكتفي الشاعر بضرب النموذج الشعري للمرأة في قصائد الغزل، إنما أيضا يكمل انتباهته الفائقة القيمة إلى الحب نفسه والمحبّ الفارس المغوار الكامل في نموذجيته، وهو بذلك يضرب النموذج الشعري للممدوح وللمفتخر بنفسه المعتدّ بها، إن هذا النموذج في الحقيقة ما هو إلا محض كذب وافتراء:
الحب في قصائد الإنشاءْ،
غرور فارسٍ يسير في طريقه
لفتح أرض السِّنْدْ
يكون سيّدًا على خيولِهِ
وسيّدًا على سرير هندْ
الحبّ في قصائد الإنشاء كِذْبةٌ وكِذْبةٌ.
ومثلُه كتابةُ الأمجاد والأوطانِ والتاريخ والحروب والمواجع التي نكابدْ
وكلها
كالحب في الحياة غير الحب في القصائدْ.
فالنموذج الشعري عند الشعراء- وفي إشارة البرغوثي- يُستخدم للتضليل الجماهيري وينعكس أثره سياسيا في إمكانية التدليس في كتابة أمجاد الأوطان واختلاق التاريخ المزيف، فالبنية الذهنية التي يعمل على صقلها الشعر، كما يفهم من قصيدة البرغوثي هو كيفية صناعة النموذج الكاذب، دون أن نناقشه، فينطبع في الوعي، فيمر الكذب والتدليس السياسي دون أن يعترض عليه أحد، فهو مؤسس له بإمكانية قبول نموذج دون مناقشة أو فحص إمكانية أن يكون واقعياً، بهذا المعنى يكون الشعر خطرا على الحياة السياسية المستقرة، وخطرا على الوعي السياسي ومحاسبة المسؤولين.
أما النموذج السردي الروائي فهو نموذج ذو روح، يتحرك، يتحدث، يصنع الأحداث، يدفع القارئ لأن يحاوره أو يصادقه أو حتى يعاديه، فيحبّ أو يُكره، لا يكتفي أن يعيش في الذهن، بل يخرج من الرواية إلى الحياة، فتراه متجسدا في أشخاص واقعيين يتحركون في الحياة، فيرتبط هذا بذاك فيظل النموذج حيا مشعا وليس مجرد تصور سردي يعيش في التصور الذهني للروائي. وهو بذلك على العكس من الشعر يبني ذهنية قائمة على الحوار، ومناقشة الأفكار المحتدمة المتصارعة للتوصل إلى قناعة ما ترضي جميع الأطراف، لكنها قناعة غير ثابتة وغير أبدية، وإنما تتقلب بتقلب المجتمعات والتغير في المعارف والعلوم التي تقودها إلى منطقة من التفكير جديدة، وبهذا تدفع الرواية الناس إلى أن يظلوا أحياء حيويين، وعلى اطلاع لئلا تصبح حياتهم قائمة على الوهم والسراب.
وعليه، فإن الواقع مليء بما يشبه الشخصيات الروائية، بينما من النادر جدا أن يُلتفت أو يتبادر إلى الذهن أن فلانة من المحبوبات المعشوقات هي عزة أو بثينة أو بلقيس أو ولّادة أو غيرهن، كما أنك لا تجد المعتصم ولا سيف الدولة ولا النعمان بن المنذر، لأن هذه شخصيات في واقع أمرها حقيقية تصنّمت وتنمذجت في القصائد، فظلت فيها بعد أن خرجت من الحياة لتدخل إلى الشعر لغة وصورة، أما رجب ومدام بوفاري وأحمد عبد الجواد ومصطفى سعيد وأم سعد، فهؤلاء شخصيات من لحم ودم ومشاعر وأفكار لهم ما يشبهونهم في الحياة، لذلك يظلون دائمي الحضور في الذهن، فهؤلاء لم يخلقوا في الرواية ليظلوا فيها أبطالا صامتين صنميين، إنما صُنعوا أو خُلقوا ليستفزّوا الحياة عند أشباههم الكثيرين ليحاوروهم كل بطريقته، ويساهموا في بناء عقلية فكرية منطقية تقوم على الإقناع وترفض الأفكار الجاهزة.
ولعلّ سؤال العقلانية الروائية أو السردية يطرح سؤال التجريب الروائي المرتبط بسؤال الانفجار الروائي؛ فهل يتنافى التجريب مع العقلانية التي تقرأ الواقع وتريد أن تصلحه أو تعبّر عنه؟
في الأصل يقرأ التجريب ويفسّر على أنه أداة تعبيرية وبنائية من أجل خدمة هدف السرد الأولى وهي العقلانية، فالروائي في التجريب لا يبتعد عن الواقع بقدر ما يريد أن يقدم إدانته له فيتقرب منه ليفهم ما فيه من نشاط اجتماعي أو سياسي أو اقتصادي لا يرضي طموح الكاتب، فعندما يستخدم الروائي الفنتازيا أو الواقعية السحرية لا يستخدمها إلا لتكون دافعا للتفكير لما يستكنّ وراءها من دوافع وحوافز، لتتم قراءة الواقع بناء على هذا الأفق، فالتجريب يثير المخيلة أولا ليثير التفكير العقلاني من أجل الوصول إلى الفكرة الأم التي ينطوي عليها السرد. هذا بخلاف التجريب الشعري الذي يقرأ على مستوى النصّ الشعري كأداة جمالية شعرية لها وظائف نصية غير مرتبطة بالواقع، فالتجريب الشعري يطمح أن يتخلص من رسائله المصاحبة ليكون نصياً، مجانيّ الأهداف، أي لا يطمح أن يكون له هدف خارج الهدف الجمالي. فلا يشترط أن تخرج بمعنى محدد من هذا التجريب، إنما يكتفي الشاعر والمتلقي بالحدس أو الإحساس الذاتي بالمعنى دون أن تكون قادرا على ترجمته. إنه شبيه بالإحساس بلغة الموسيقى التي تنحو نحو التجريد المطلق.
كل تلك الأسباب المؤدية إلى الانفجار الروائي من عقلانية وفردانية وانفجار معرفي وتطور علمي وتطور في وسائل التعبير التجريبية الخارجة عن المألوف والكلاسيكية والتقليد، لا تعني انتهاء الشعر وموته بالكلية في المجتمعات الحديثة، فلا بد من أن يظل موجوداً، لأن منطقة الحسّ الفردي، وليس الفرداني، تحتاج إلى العاطفة والتزود الوجداني في مسائل شخصية كالحب والزواج والتأمل الإيماني والمصير الشخصي المتصلة بالموت والحياة، إنما لن يكون للشعر دور اجتماعي ومجتمعي وسياسي واقتصادي وتعليمي وعلمي وتقني كما هو للرواية التي تأقلمت مع كل هذا وجعلت كل المعارف في جوفها، حتى الشعر نفسه طوعته الرواية لخدمتها البراغماتية، لأنها لا تؤمن إلا بالمصلحة أكثر من إيمانها بالفنّ. فالرواية هي فن المصلحة بلا أدنى منازع.

زر الذهاب إلى الأعلى