بين يدي استيراتيجية السلطان أوردوغان .. ”الفاتح” !!

ثلاثاء, 26/05/2020 - 22:33

بقلم / محمد الكوري ولد العربي

فيما تنشغل دول العالم، مذعورة،  بجائحة كورونا، يبدو الرئيس التركي، رجب طيب أوردوغان، ذي النزعة السلطانية العثمانية، منشغلا باغتنام انذهال العالم بالجائحة، لينشر، هو،  آلاف العناصر من بقايا الإرهابيين و المرتزقة السوريين في ليبيا ، بعدما انتفى غرضه من تشغيلهم في سوريا ؛ مدفوعا ، حتى الجنون، بحلم تاريخي دفين في عقله و وجدانه ؛ و هو استعادة أمجاد الامبراطورية العثمانية و استعادة  خريطة نفوذ العثمانيين تاريخيا في الوطن العربي، الممزق أشلاء.

وإذا كان السلطان  أوردوغان ” الفاتح ” سبق له التعبير عن هذا الحلم الطوراني في أكثر من مرة ، و بصيغ مختلفة في مناسبات متعددة، ناظمها  لفت الانتباه إلى ” غيرته ” على فلسطين تارة، و تارة ب ” إظهار ” النخوة و ” الحمية ” للمسلمين من الغطرسة الغربية ، فإن ذلك لم يكن لتصدقه السياسات الاقتصادية و التحالفات العسكرية  و الشراكات السيتراتيجية بين تركيا – أوردوغان و الكيان الصهيوني ، و بين تركيا و الدولة الملالية في إيران ؛ و إنما كان في صميمه حيلا من أوردوغان لإخفاء حقيقة أنه يريد و يعمل من أجل بسط نفوذه و وصايته، المشبعة بالزهو بالتاريخ العثماني، على الشعب العربي ، أو على ما أمكنه منه، على طريق أجداده من سلاطين القسطنطينية .

و كما أن أولئك الأجداد حكموا و تحكموا و توسعوا باسم الإسلام ، فإن  السلطان أوردوغان ” الفاتح ”  لم يوفت فرصة للحديث عن الإسلام و إثارة مشاعر العامة من المسلمين ، مرة بتلاوته الندية لآيات من القرآن الكريم  ، و مرة برفع الأذان على الأثير  ، مستغلا الرافعة التنظيمية الدولية  لجماعة الإخوان المسلمون ، الذين يعكسون صورة السلطان  أوردوغان “الفاتح”   الجديد مكبرة ، على شاشة قناة الجزيرة السيارة في أرجاء العالم الإسلامي،  كما لو أنه رجل الخلاص و الوحدة الإسلامية المنشودة ، التي يتوق إليها كل مسلم و مسلمة، في العالم !

كان السلطان أوردوغان قد انفلت من عقله، في ما عرف ب ” الربيع العربي ” في 2011، تحت ضغط الحلم العثماني الراقد في مخه و قلبه، فانساق، بخفة، و راء الدعاية الغربية يومئذ بسهولة إسقاط نظام عائلة أسد، حيث ظن أن إسقاطها سيكون بالسرعة و على نحو ما سقط نظام المرحوم معمر القذافي ، و أن جماعة الإخوان المسلمون ، و حلفاءها – التي  أظهرت قوة تنظيمية و تعبوية و عسكرية في ليبيا-  ستعيد نفسها في المشهد السوري بذات السرعة و الفاعلية ،  فتستولي على السلطة بدمشق، من دون أن يخطر ببال السلطان  أوردوغان ” الفاتح” أن قيصر الروس الجديد، افلادمير البوتين، قد حزم أمره، هذه المرة ، و قرر عدم غياب روسيا عن مشهد اقتسام الوطن العربي .

فكانت المفاجأة..

و بحق، فإن أوردوغان قاوم بعناد ، وناور ما وسعته المناورة  ، في سبيل طموحاته التوسعية  العثمانية، في أرض سوريا ، داعما لجماعة الإخوان المسلمون ، ضمن المعارضة السورية، عبر الجيش الحر، و هو الجناح العسكري التابع لها ؛ بل إنه تدخل أكثر من مرة لمؤازرة هذا التنظيم العسكري ، لتعزيز مكاسبه العسكرية على الأرض ؛ و لكن إصرار البوتين على نصيبه من قصعة الثريد و تفوق آلته العسكرية تخطيا قدرات تركيا في الموضوع السوري.

و هكذا، كان السلطان  أوردوغان ” المغبون ” يلتفت يمينا و شمالا بحثا عن نصيبه من الوليمة و عما يقضمه من أرض العرب ! فقفز ، في بداية أمره، على خلاف دولة قطر و شقيقاتها، السعودية و الإمارات العربية المتحدة، و لكنه وجد أن قطر غير كافية لإشباع نهمه الجيو – استراتيجي و إسكات جوعه الاقتصادي.

عندها، تذكر ليبيا المتروكة دوليا لفوضى السلاح  و الاقتتال بين الجماعات الإسلاموية، فيمم شطرها مستفيدا من شرعنة دولية ناقصة لحكومة هجينة و ضعيفة يسيطر عليها جماعة الإخوان المسلمون و حلفاؤهم من الجماعات الإسلاموية المقاتلة  ، و لا تسيطر إلا على مساحة ثفال رحى من ليبيا الشاسعة ؛ فكانت تلك فرصة السلطان  أوردوغان للانقضاض على ليبيا المثخنة بالجراح و المنهكة بالاحتراب الأهلي، على مرأى العالم و مسامعه. هنا،  اكتشف السلطان  أوردوغان ” الفاتح ” إمكانية بناء استيراتيجيته للاستيلاء على ليبيا الغنية- النازفة ، و في ذهنه استنساخ تجربة نظام الملالي مع عملائهم من العراقيين، في العراق. و هكذا، سابق أوردوغان ” الفاتح ” الزمن، منذ أشهر، مفرغا كامل سرعة عداده لاستحصال هذه الغنيمة الدسمة، و كعمق جيو- ستراتيجي يعوضه خسارته في سوريا ، و يعيد له ” هيبته” الإعلامية  المتكسرة أمام البوتين و اترامب، و عيونه مفتوحة على متاعب العالم من  جائحة كرونا!

و قد تشجع السلطان أوردوغان في غزوه لليبيا بانكشاف هشاشة دول الاتحاد الأوروبي و خور لحمة منظومته  أمام هذه  الجائحة غير المسبوقة ، و بانكفاء اترامب و تدحرج أمريكا المتسارع؛ و إذن لم يكن ليطيل التحليل في خياراته : فخياره في سوريا جرب حظه فيه و كان فشلا ذريعا انسحب في نتائجة المحبطة على حسابات الثورة السورية ، التي عولت ،  بدفع من الإخوان المسلمون،  على الدور التركي ، أكثر مما يمكن لتركيا تحمله في وجه روسيا. و أما خيار قطر فقد بدا ضئيلا و هزيلا لا يستحق، بنتائجه الاسيتراتيجية، الدخول في مغامرات دولية، بينما تقف أمريكا في وجهه عند محمياتها الخليجية الأخرى، أما العراق ففي نظره فهو  جثة تلعب بها أمريكا و إيران؛ و إذن لم يبق إلا دول المغرب العربي.

و السلطان أوردوغان ” الفاتح ” عندما يدرك هذه الحقائق ، أثناء مقارنة البدائل، فإنه يدرك ، في ذات الوقت، قيمة البيئة الملائمة لنزعته التوسعية – هذه الفترة ، و هي بيئة ظرفية-    في أكثر من قطر عربي مغاربي : فتنظيم الإخوان المسلمون يحكم السلطة بتونس عبر حلفائهم، بدعم من حليفه القطري، و هم يقتسمون السلطة مع العرش الملكي في المغرب، و الجماعات ” الجهادية”  ما تزال قادرة على الإيذاء في الجزائر ، و في ليبيا، و هي قاعدة الانطلاق لاستيراتيجيته،  يسيطر حلفاؤه على العاصمة السياسية ، و يحظون باعتراف دولي، صحيح أنه منقوص، و لكنه قابل للمحاججة في الإعلام و القانون الدولي.

 وهكذا، اهتدى السلطان أوردوغان” الفاتح” لأنسب جغرافيا سياسية للتمكين لاستيراتيجيته التوسعية، في ظروف عربية سيئة و ظروف دولية مرتبكة بجائحة الكورونا، خصوصا أن تنظيمات الإخوان المسلمون عبر العالم لا تكف عن الحنين لعهد المسلمين في ظل  الخلافة العثمانية و سلاطينها.

و هكذا، فإن استيراتيجية السلطان  أوردوغان اليوم في ليبيا ناطقة بذاتها عما يسعى له من غزوه العسكري الغليظ و الفاحش للشعب الليبي ؛ فهي، فضلا عما تتيحه لأوردوغان من نهب لثروات الليبين و سرقة مقدراتهم بالاتفاقيات الهزلية مع ” حكومة السراج ” ، فإنه، إن نجح في مسعاه، فسيحكم قبضته على كل من تونس و الجزائر و المغرب و موريتانيا عبر حكومات إسلاموية تتعهد مكتب الإرشاد في اسطنبول ، على نحو ارتباط رئيس النهضة راشد الغنوشي بها،   و ” تستنير ” من هناك في سياساتها الخارجية و الاقتصادية. و أما جمهورية مصر العربية، فستجد نفسها محاصرة من حكومات إسلاموية إفريقية، و سيسقط النظام فيها من تلقاء نفسه دون جهد يذكر، بينما قد يأخذ الإسلام السياسي السلطة في موريتانيا –  و إن لم يكن هذا جليا للعيان الآن   – مسنودا بقوة المحيط و مستفيدا من تراجع محتمل للدعم الشعبي و التفاف النخبة حول الرئيس محمد ولد الغزواني فيما إذا تقاعس عن المضي في الإصلاح و التغيير المطلوبين بإلحاح –  بالتحالف مع بعض بقايا قوى المعارضة التقليدية و بعض القوى الشرائحية و العرقية المتطرفة و بعض الأوساط المقربة من النظام الماضي الناقمة  على النظام الحالي ، على أن تبقى الدول الأوروبية المشاطئة للبحر الأبيض المتوسط ، كالممسوك بشدة من قفاه، في هذه الحالة  !

و باكتمال فصول السيترراتيجية السلطانية  الأوردوغانية في المغرب العربي و مصر ، فإن السلطان أوردوغان سيكون قد تخلص من عبء مجاميع الإرهاب و المرتزقة السوريين ، المتجمعين له على الأرض التركية، بإرسالهم للموت في ليبيا أو بتمكينهم من التسلل إلى الأراضي الأوروبية ، و ثانيا يضع يده على مقدرات هذه الدول بواسطة حكومات تابعة للخلافة الإسلامية  الكبرى في اسطنبول، و ثالثا يبني عمقا جيو- ستيراتيجيا هائلا تتنفس منه تركيا و تتجاوز به بعدها الإقليمي المخنوق، إلى بعد دولي يمكنها من المشاركة في رسم خريطة العالم، الذي يعيش تحولات كبيرة، أو على الأقل ينقذها من تداعيات هذه التحولات الجارجية بعمق، على أكثر من صعيد.

و رابعا، سيبسط السلطان أوردوغان نفوذا واسعا على كامل منطقة دول الساحل و الصحراء، يتيح له رفع سيف ديموقليدس على رؤوس قادة أوروبا، شمالا، و قادة و شعوب إفريقيا برمتها،  جنوبا.

 فهل تبقى هذه الأنظمة، المستهدف مباشرة،  تتفرج على بناء أوردوغان لاستيراتيجيته انطلاقا من السيطرة على ليبيا واستغلال ثروتها النفطية و موقعها السبتراتيجي العظيم، وهل تشبك القوى الشعبية والمجتمعية و السياسية العربية سواعدها أمام فتوحات السلطان  أوردوغان و تحقيق نزعته التوسعية و حلمه العثماني على خريطة المغرب العربي، و أرض الكنانة !

و هل يترك العرب السلطان أوردوغان و مرتزقته يذبحون الشعب العربي الليبي، كما تركوا الخامنئي و عملاءه يذبحون الشعب العراقي.. وهل يقبل الأوروبيون أن يحول السلطان أوردوغان ليبيا منصة له متقدمة يبتزهم منها بآلاف الإرهابيين و المهاجرين السريين ؟

هذا ما ستكشف عنه تداعيات الغزو التركي لليبيا، خلال الأيام أو الأسابيع القادمة..