الوباء هبة من الله

جمعة, 24/04/2020 - 19:18

بسم الله الرحمن الرحيم
 
 
الموضوع: ماذا بعد الوباء؟
 
لا زال الفئام من الناس على مر التاريخ يتعرضون للبلوى بالخير والشر؛ كما قال تعالى: ﴿وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ۖ وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ﴾، وإنما تتسلط عليهم الأوبئة والأسقام بقدر انصرافهم عن الله تعالى وارتكابهم للمعاصي والآثام؛ كما جاء في قوله تعالى: ﴿وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ﴾، بل جعل الله تعالى للابتلاء بالجوائح والأمراض غايات عظمى وأهداف رفيعة قال جلت عظمته: ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾، ولقد كان انتشار كثير من هذه الأوبئة إنما يتم عبر التقارب الاجتماعي والعلاقات البشرية البينية.
ومن المعلوم أن كثيرا من هذه الجوائح تؤدي إلى تغيير جذري في حياة الناس، فتختفي مجتمعات وتبرز أخرى وتتأخر دول وتتقدم أخرى؛ وتلك هي بصمة الوباء التي يتركها تأثيرا على الحياة من كافة زواياها الروحية والنفسية والاقتصادية والاجتماعية والقيمية والسلوكية، بل ويمتد ذلك التأثير على مدى أجيال متعددة، وتظل انعكاساته مستمرة لفترات طويلة؛ رغم أنها لا تخلو من فوائد، كما هو الشأن في اختلاط الخير بالشر في كل مناحي هذه الحياة؛ إذ لا توجد فيها مصلحة  متمحضة ولا مفسدة متمحضة؛ قال تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ ۖ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ﴾، فالمصلحة المتمحضة في الجنة والمفسدة المتمحضة في النار عياذا بالله تعالى، ومن نتائج هذه الطواعين على المجتمعات التي تعرضت لها تبصر العقلاء وتدبر النبهاء في أن مسير هذا الكون واحد، فتذكو فيهم جذوة الارتباط به فيألهونه ويهرعون إليه..
ويعتبرون الوباء فرصة سانحة لاقتناص خير عميم؛ يقول الإمام أحمد بن حنبل: ’الأمراض مواسم العقلاء يستدركون بها ما فات من فوارطهم وزلاتهم إن كانوا من أرباب الزلات، ويستزيدون من طاعاتهم إن لم يكونوا أرباب زلات‘..
ولا شك أنه من الألطاف السائدة والرحمات المشهودة أن في طيات كل محنة منح إلهية مبهرة؛ ففي ظل الجوائح مثل انتشار وباء كورونا نجد أن نشاط التجارب الطبية والخبرات الاستشفائية يشهد ازدهارا بينا وتطورا ملموسا سعيا إلى تحصين المجتمعات ضد الأوجاع والأمراض، إضافة إلى ما تعيشه تلك المجتمعات في الجانب الروحي من الإنابة والتوبة والافتقار إلى الله تعالى والشعور بالعجز والاستكانة، والاقتناع أنه لا ملجأ من الله إلا إليه.
وفي الجانب الاجتماعي يتعاظم التعاون ويتعاضد الناس ويشتد التكافل ويسود التآزر ... وينتعش الأدب عازفا على نغم الجائحة، ويتنافس المؤرخون في التدوين ... وتشتعل أقلام الصحفيين ويجد الإعلام مادة دسمة يتعاورها بالصور والمقاطع والمقالات، ويتراقص خيال الإبداع...
وكما سبقت الإشارة فإنه وتحت وطأة الزخم الوبائي تتغير ملامح المجتمعات تغيرا جذريا تضطرب معه سائر أوجه الحياة ويعمها الهلع خوفا من المستقبل المجهول، وتعلقا بالعودة إلى سابق العهد، وهو ما لن يكون؛ بل الواقع قيام حياة تشي بصياغة بشرية جديدة.  
وفي هذا الإطار وسعيا لتخفيف آثار التحول المذكور وتوجيه انعكاساته يجب على كل ذي مسؤولية مسلم استحضار مسؤوليته كاملة، تطبيقا لأمر الله تعالى: ﴿قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا﴾، ولأمر رسوله ﷺ: "ألا فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته .."؛ فلا بد من الوقوف في وجه عاتيات التغيير هذه للإسهام في تحصين المجتمع المسلم وإنقاذه من أتون الانهيار، واقتياد سفينته إلى بر الأمان..
وفي سبيل إنقاذ المجتمعات الإسلامية وإسعادها بالخيرية لا بد من إحياء شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، تلك الشعيرة التي يترتب على القيام بها أجل الفضائل الأخلاقية والسلوكية؛ فهي التي تمكن المجتمع من تنقية صفوفه من أدران الآثام وأغلال المعاصي، يقول تعالى: ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ﴾؛ فحين عم الفساد أغلب الأمم فأزلها وأدحضها علت هذه الأمة وسادت بشعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فكان احتماؤها بهذه الشعيرة وإقامتها لها حصنها المنيع من استشراء كافة أنواع الفساد، ودرعها الواقية من غرق السفينة؛ كما جاء في قول النبي ﷺ: "مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا، فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا"، فحال المجتمعات إنما تنصلح وتستقيم بإقامة هذه الشعيرة المباركة..
كما أنه لابد من رفع معنويات الناس وبث البشرى والتيسير في نفوسهم، وإقناعهم أنه لا داعي للهلع والخوف، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: "يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا"، فلابد من التعلق بجزيل عطاء الله تعالى وكريم ثوابه، وإفشاء حسن التفاؤل؛ فقد "كان النبي ﷺ يعجبه الفأل الحسن".
وفي هذا الخضم يلزم المسلم أن يكون على يقين بقول ربه عز وجل: ﴿قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا ۚ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾، وعلى إيمان بقول نبيه ﷺ: "واعلم أنما أصابك لم يكن ليخطئك ، وما أخطأك لم يكن ليصيبك"، وهو على اعتقاد جازم بموعود الله تعالى، كما جاء في الحديث القدسي: "أنا عند ظن عبدي بي"، وهو على علم بأن ربه ما ابتلاه إلا ليعلي درجته، وما أمرضه إلا ليحط عنه خطاياه، فهو بين خيرين؛ كما جاء في قول المعصوم ﷺ: "عجبا لأمر المؤمن، إن أمره كله خير، وليس ذلك إلا للمؤمن؛ إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له"، فالمؤمن في كل أحايينه متقلب بين شكر للنعماء وصبر على البلاء، وقلبه معلق بثواب الله تعالى؛ كما قال عز وجل: ﴿ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾.
وهو في الوقت نفسه آخذ بالأسباب الروحية كقراءة القرآن والأذكار والأدعية، والمادية كالحجر والنظافة والتداوي، واتباع الهدي النبوي كعدم تنفسه في طعامه أو شرابه أو نفخه فيه، متبعا قول نبيه ﷺ: "إذا شرب أحدكم فلا يتنفس في الإناء"، وكما في رواية ابن عباس -رضي الله عنهما- أن النبي ﷺ: "نهى أن يتنفس في الإناء أو ينفخ فيه".
ومن المعلوم كما أشير إليه آنفا أن البلاء هبة من الله تعالى لعباده المؤمنين رفعا لدرجاتهم وتكفيرا لسيئاتهم؛ كما جاء في الحديث أن النبي ﷺ قال: "إن العبد إذا سبقت له من الله منزلة لم يبلغها بعمله ابتلاه الله في جسده أو في ماله أو في ولده، ثم صبره على ذلك حتى يبلغ المنزلة التي سبقت له من الله تعالى".
فالابتلاء خير للصابرين ونعمة للمستبصرين؛ فهو من ألطاف الله تعالى بعبده المؤمن، مع ما فيه من الاختبار والحكمة البالغة.
وليعلم المسلم قبل هذا وذاك أن الله تعالى لطيف بعباده؛ كما قال جلت عظمته: ﴿اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ﴾.
وكما جاء في قول النبي ﷺ: "الله أرحم بعباده من المرأة بولدها"، ويقول ابن تيمية: ’والمنازل العالية لا تنال إلا بالبلاء‘.
وتكون البلوى بالخير والشر؛ كما قال تعالى: ﴿وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ۖ وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ﴾
فعلى المسلم أن يسارع بالتوبة والإنابة ويكثر من الاستغفار وفعل الخيرات والاجتهاد في الطاعات، وحينها ستنجلي كل غمة ويزول كل بلاء... 
 
رفع الله تعالى البلاء عنا وعن المسلمين أجمعين، وأغنانا وإياهم بنعمة الشكر عن نعمة الصبر..
والله تعالى أعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين
 
 
د/ أحمد ذو النورين