عندما كاد أبي يسقط داخل سيارة الإسعاف! 

اثنين, 20/04/2020 - 23:45

كان ذلك في أواخر شهر فبراير من السنة الماضية (2019) عندما رن هاتفي صباحا ليخبرني أحدهم بنقل أبي في سيارة إسعاف إلى نواكشوط ...كانت تلك المكالمة - رغم قصرها- كفيلة بإحداث خلخلة شاملة في وظائف أعضاء جسمي الفسيولوجية، فتسارعت دقات قلبي ...وشعرت بضيق في التنفس ودوار في الرأس ...و رعشة في الأطراف ..لم أتمكن حتى من ابتلاع ريقي لأسأل عن تفاصيل الخبر مسافة طويلة بلغة الانتظار ستقطعها السيارة قبل أن أعرف حقيقة الأمر،..وما أصعب أن يحسب القلب بالثواني مسافة 280كلم2 
أسرعت إلى المستشفى فربما يساعدني ذلك على تحمل الموقف ريثما يصل أبي... 
أمام الباب الكبير للمستشفى بكيت بحرقة فلعلي أفرغ مخزون الدموع قبل وصول أبي وإخوتي، ألست أنا الكبرى و عليَّ حسب تقاليد الأسرة القاسية أن أتجرع الألم وأبكي في صمت لأتظاهر بالقوة أمامهم ! 
وصلت سيارة الإسعاف حوالي الواحدة زوالا ...أسرعت إليها ..ولما فُتح الباب فوجئت بالمشهد... كان والدي مستلقيا في شبه غيبوبة على سرير متهالك يهتز يمينا وشمالا محدثا صوتا مزعجا بسبب احتكاك المسامير التي ثُبت بها على أرضية السيارة ...كانت أشعة الشمس الحارقة على وجهه وكتفه الأيسر تضاعف إحساسي بالألم، فالسيارة غيرمكيفة و بدون ستائر، و أشبه ما تكون بالباصات الصغيرة التي تحمل السمك و الخضروات بين المدن ، بل قد تكون تلك أكثر برودة لأنها تحمل الثلج مع السمك على الأقل... 
قبل نزول المريض بدأت الطبيبة المرافقة تفحص أغراضها داخل حقيبتها اليدوية ..فلم تكن أسارير وجهها تخفي حتى على من لا يعرف لغة الجسد، مسحة الفرح بمرافقة المريض، حتى تتمكن من قضاء بعض حوائجها من العاصمة وتعود في نفس اليوم..نزلت من السيارة مسرعة لتركب إلى جانب السائق ولم تكلف نفسها مجرد وداع المريض...
بينما كنا نحاول إنزال والدي ببطء من فوق السرير مال به حتى كاد يسقط ، فيبدو أن السرير المتهالك أكمل عمره الافتراضي وزاد عليه حتى تآكلت أرجله بسبب الصدإ.. 
يا الله !! ما أصعب المشهد..كنا نبكي بحرقة على وضعية والدنا ...وكنت أبكي مرتين، عليه وعلى منظر سيارة الإسعاف...فقد ابتلاني الله بأن جعلني من أولئك الذين يسكن حب الوطن قلوبهم ويتألمون لأبسط إحساس بمعاناته...
في مساء نفس اليوم وبينما أنا جالسة إلى جانب أبي إذ أعاد ذهني بالعرض البطيء مشهد السرير وسيارة الإسعاف ...فعاودني الشعور بالألم ،غير أن صوتا بداخلي كان يخفف عني بطريقة تحمل شحنات من التثبيط على طريقة "كتاب" عالم التواصل اليوم، فيذكرني بكل من تألم للوطن من قبلي ولم يحقق أي شيء ...فذلك الفنان الكبيرالجيش يحتج في السبعينات على إرهاق كاهل المواطن البسيط بالضرائب فيقول: 
أخواتي تسعة هجلات # ما عندي حد امعاوني 
كد امنين انبيع اشويهات # إظل الجوتي إصاوعني 
وأولئك مجموعة من الفتية يوزعون سرا في بداية السبعينات جرائد صيحة المظلوم والأظافر الحمراء... فيكتبون فيها بحروف تقطر حزنا عن معاناة الوطن...مئات الآلاف تألمت قبلي ...
استحضر ذهني كل هذه اللحظات عن طريق ما يسميه الفلاسفة ب"التداعي الحر" أول أمس عندما كنت أتابع أخبار إدارة الدكتور محمد نذيرو لأزمة كورونا و اقتناء وزارته لسيارات إسعاف بالمواصفات الفنية والصحية المطلوبة في هذه الظرفية الصعبة من تاريخ البشرية ..حيث بكى وزراء الصحة في العالم واستسلم رؤساء الدول العظمى وتوقعوا الأسوأ ....وارتبكت منظمة الصحة العالمية ..
وفقك الله يانذيرو ووفق الرئيس الذي برهن باختياره لك على الرغبة في تغيير المشهد والبحث عن الكوادر الوطنية المناسبة..
هذه شهادة بحروف بكر من امرأة لم تكتب يوما عن رئيس ولا وزير ولا سياسي بل تكره السياسة وتسير على مذهب بول فالري الذي يقول: " إن السياسة هي فن إقناع الناس بأن يهتموا بما لا يعنيهم " 
ورحم الله الشاعر فاضل أمين الذي جعلنا نتمسك ببقية الأمل ولم يتركنا نموت من اليأس قبل قدوم الزمن الذي حلم به منذ ما يزيد على ثلاثة عقود عندما قال:
لملم شتاتك يا شعبي ترى العجبا 
إن الزمان الذي تبغي قد اقتربا

ذ/ فاطمة بنت إسلمو