في ذكرى  رحيل ديدي بونعامه

اثنين, 16/03/2020 - 15:37

عند ما يرحل العظماء تنقص الأرض من أطرافها وتذبل زهرة العطاء وريحانة المحبة، وتنهار منارة خير وتجف ينابيع فضل، وبرحيلهم تنفطر القلوب وتنكسر النفوس لأنهم حماة المبادئ وصانعي القيم الذائدين عن حياض الكرم والشرف والإباء، لكنه الموت الذي يأخذ بلا استشارة ويطرق بلا استئذان، الموت بكل قسوته وجبروته فكم من بسمة حولها إلى كآبة وكم من مسرة هتكها، وكم من جرح غائر خلفه في الأجسام وكم من أوجاع أسكنها في ثنايا الأرواح، فالموت عضبٌ لا تخون مضاربه وحوض زعاق كل من عاش شاربه، وللموت وفراق الأحبة ردات فعل تختلف باختلاف المُفَارِقِ والمُفَارَقِ فذا يندبهم بالنحيب وذاك بالبكاء وأولائك بالصبر والسلوان فتشكل تلك المشاعر تراجيديا حروفها الحزن وقافيتها اللوعة وبحرها أمواج دموع متلاطمة لا تعرف السكون، وبقدر ما كان الفقيد عزيزا تصدق المشاعر وتتأجج الحرقة ويصدق قول القائل:
فأنت وإن أفردت في دار وحشة    فأنا بدار الأنس في وحشة الفرد.
نعم إنها وحشة واستحضار أيام مع عزيز عشتها وحيدا واليوم أبوح بها لتشاطروني مشاعري وحسرتي في ذكرى رحيل الوالد ديدي بن بونعامه، محاولا خلال هذه السطور إثارة مناقبه ومآثره، لكن هيهات كيف لمن هو مثلي أن يكتب مآثر ومناقب كالجواهر والدرر، يصعب حصرها ويستحيل عدها، خاصة أني لا زلت تحت تأثير الصدمة وشهادتي فيه مثخنة بالجراح لأنه أبي وقدوتي ومحط إعجابي ورضاي، فكان الأب العطوف والأخ الناصح والصاحب المرشد إنه بكلمة واحدة كان عائلتي وكل شيء في حياتي:
قد كنت أهلي أسرتي وعشيرتي     ولأنت أقربهم يدا بفؤادي
لقد كان رحمه الله ينزل كل هذه المستويات ليزرع فينا سنابل خير وعلم وفضل وأدب ووقار فكان نور حياتنا ومصباح ظلامنا دليلنا الأمين وسندنا المتين، فيعذرني قرائي إن بدت عباراتي مهلهلة المعنى وضعيفة المبنى:
لا ينفد الدمع الذي أبكي به 
يعز علي أن يفارق ناظري
إن الدموع عليك غير بخيلة
إن القلوب له من الإمداد
لمعان ذالك الكوكب الوقاد
والقلب بالسلوان غير جواد
فلم يكن والدنا رحمه الله شخصا عاديا ولا رجلا كغيره من الرجال بل كان استثناء يمشي على الأرض فقد جمع من خصال النبل والشهامة والفتوة ما يستحيل اجتماعه في شخص واحد ولكن لا غرابة أن يجمع الله العالم في واحد، فقد استطاع بألمعيته وعصاميته ونبوغه أن يرتقي  أسمى المناصب  وأشرف الوظائف والتي أدارها بكل مهنية واقتدار لم يخضع فيها إلا لله وضميره المهني تاركا بذلك بصمات خالدة ظلت محط اهتمام كل من خلفوه ولولا وصيته لي أن لا أحكي عنه أمورا دنيوية بعد وفاته لاستطردت أمثلة لا حصرا قصصا ووقائع تثبت عدالته وحرصه على إرساء قواعد العدل والإنصاف ولعل في هذه الأبيات  تشهد على ذلك:
شمس الضحى أو قمر
ديدي الذي تعرفه
سل العدالة وسل
ستنبئانك به 
في جنح ليل أليل
عنه غني في المحفل
كل التجارب سل
بأفعل المفضل
ولم تكن الدنيا لتشغله عن أخراه لقد كان قواما صواما يتلوا كتاب الله آناء الليل وأطراف النهار وكان يختم في الشهر مرتين رغم مشاغله وكانت له عادة طيلة مساره المهني تتمثل في قراءة حزبين كل يوم عند دخوله المكتب لا يشغله عن ذلك أي شيء مهما كانت وجاهته وهي عادة يعرفها له كل من عملوا معه وكانت السنة تحكم كل أفعاله وتصرفاته وكان محبا لآل المصطفى صلى الله عليه وسلم وله سند في المصافحة والمشابكة. إضافة إلي انه كان بارعا في اللغة وعلومها وهو ما يتجلى لك حينما تراه يلقي خطابا أو يتحدث في مجلس فتظن أن سيبويه قد بعث، إضافة إلى تبحره في مختلف العلوم الشرعية فكانت مجالسته بحق مجالسة الجليس الصالح فلا بد أن يفيدك بحكم أو بحكمة أو نصيحة أو موعظة بأسلوب رباني يصل القلوب قبل المسامع، وكان رحمه الله ورعا زاهدا وانقل لكم بعض القصص الدالة علي ذلك أولاها انه لما تقاعد التحق بالمحاماة و ذات يوم كان يطالع كتابا لأحد العلماء فوجد فيه رسالة موجهة من الشيخ العالم إلى صديق له، يحثه فيها بتعهد أحكام الصلاة كل ستة أشهر لان الذاكرة تشيخ وتضعف مع الكبر، وأن لا يكون للخائنين خصيما. فأثرت فيه واعتزل المحاماة واشتغل بالتأليف في الصلاة وله كتاب في السهو سيصدر قريبا إن شاء الله  والثانية انه قبل وفاته بأسبوع دخل مكتبته ورتبها وجمع جميع خطبه والوثائق الدنيوية وحرقها، ولما سألته عن دوافع ذالك رد علي يا بني ما لا يسرك أن تراه يوم القيامة تخلص منه وتب إلى الله لعله يتوب عليك. أما السخاء والإنفاق فتلك  سجيته التي حاز فيها السبق بلا منازع، سخاء لا من فيه ولا أذى فقد كان سند كل ضعيف وملهوف وكان بيته محج أهل الحاجات والتي تقضى علي يديه بالتبسم والترحاب وكأن الشاعر يعنيه بقوله: 
وما كان إلا مال من قل ماله            و ذخرا لمن أمسى وليس له ذخر      
وقول الآخر:
تعود بسط الكف حتى لو أنه        أراد انقباضا لم تطعه أنامله
هذا هو ديدي ولد بونعامه في البذل كما عرفناه وبرحيله رحلت المروءة وكسف قمر المكارم وأنشد أصحاب الحاجات قول الشاعر 
مضى لسبيله من كنت ترجو
فلست بمالك عبرات عين
وقلت أين نرحل بعد معن
عثرات دهرك أن تقالا
 أبت لدموعها إلا انهمالا
وقد ذهب النوال فلا نوالا
إني مهما أوتيت من بلاغة وسحر بيان لن أستطيع حصر مناقب والدنا ولست وحدي فلو حاول البلغاء والخطباء وأرباب البيان ذلك لتكسرت أقلامهم وتعثرت جيادهم وتقاصروا دون ذلك لكنها محاولة تندرج في إطار ما لا يدرك كله لا يترك جله. وأقول برحيلك رحل الكثير من الناس وتيتم الكثير وترمل: 
لعمرك ما الرزية فقد مال
ولكن الرزية فقد من
ولا فرس يموت ولا بعير
يموت بموته خلق كثير
رحمك الله والدنا وأسكنك فسيح الجنان وصب عليك شآبيب رحماته وجمعنا معك وجميع والدينا في جنان الفردوس ولا نقول إلا ما قال رسولنا وحبيبنا صلى الله عليه وسلم إن العين لتدمع وإن القلب ليحزن وإنا على فراقك لمحزونون ولا نقول إلا ما يرضي ربنا إنا لله وإنا إليه راجعون

 

الداه ولد بونعامه