في وجه الإصلاح المرتقب ... هناك معيقات للتحصيل ينبغي علاجها بشكل مستعجل

أربعاء, 22/01/2020 - 21:14
د.  البتول عبد الحي

د. البتول عبد الحي

إن وتيرة التغيير الجذري التي تتسارع يوميا بفعل غزو الثورة الرقمية ودخول التكنولوجيا الرقمية لأدق تفاصيل الحياة اليومية للفرد والمجتمع تستدعي مراجعة للمقررات والمناهج غايات و طرقا ووسائل ومحتويات وآليات،

 فتغير الاحتياجات يقتضي مراجعة الغايات والأهداف، وتغير الغايات يقتضي تكييف الطرق والوسائل التعليمية والمحتويات وآليات التقويم والمتابعة معها ومع هذه الاحتياجات.

 والمراجعة ينبغي أن تتم بغربلة المنهاج وتخفيف المحتويات لحذف ما لم يعد ضروريا في مرحلة وإضافة مستجدات المهارات (مهارات المستقبل ) تلك المهارات التي باتت ضرورية  بعد أن طالت سرعة وتيرة التغيير كل شيء فحولت دماغ الطفل من صفحة بيضاء يكتب عليها المعلم ما يراه ضروريا، إلى دماغ محشو بالمعارف والخبرات ، كما تحول الكمالي من المعارف  إلى ضروري والعكس  .

إذا يمكن القول أن منهجنا التعليمي  في مرحلته التي تؤثر بشكل جذري على المراحل اللاحقة  وتهيؤلها (المرحة الأساسية)  يحتاج بشكل استعجالي إلى علاج مجموعة من الاختلالات ولن أذكر هنا إلا المؤثرة بشكل مباشر على عمليات التحصيل المعرفي و المهاري للأطفال دون غيرها من الاختلالات الكثيرة، والتي يمكن علاجها على مراحل في المدى المتوسط ، وهذه هي الاختلالات أذكرها موزعة على عناصر المنهج:

غموض في ملامح الشخصية المراد إنتاجها والدور المنوط بالمرحلة الأساسية من تحديد ملامح ذلك المنتج؛

وفرة المحتويات مع تكرارها في أكثر من مادة وذلك على حساب الوقت والقدرة الاستيعابية للمتعلم واحتياجات المرحلة ،علما بأن بعض المعارف قد لا تكون بالضرورة تؤسس  لمعرفة أو مهارة مطلوبة.

 تقليدية  الطرق المستخدمة في التدريس إذ تعتمد في جل المواد على تنمية مهارات الحفظ والتسجيل بدل مهارات التفكير والتحليل والاستنتاج والبناء ، والأدهى من ذلك أنها تدرس غير الناطقين باللغة بطرق تدريس  الناطقين بها.

محافظة البنية التحتية والطرق المستخدمة على المكانة التقليدية لكل من المعلم والمتعلم متجاهلة بذلك الانقلاب الحاصل في موقع كل منهما ، فالطفل لم يعد وعاء تحقن فيه المعلومات والمعلم لم يعد المصدر الوحيد للمعلومات فلمسة زر هاتف التلميذ تعطيه كل ما كتب في الموضوع الذي يقدمه المعلم ،وقد لا تتوفر للأسف تلك الإمكانية عند بعض المعلمين.

 كما أن وضع الحجرة الدراسية ذات المقاعد  الثقيلة أو المثبتة أو الحجرة بدون مقاعد ولا تجهيزات ولا حتى كهرباء ،لا تساعد في استخدام طرق التعليم النشطة وهذا من أكبر المعيقات الفنية للتحصيل .

وضعية الكتاب المدرسي وهي ذات شقين :

الشق الأول :عدم الوجود وهو الغالب  فقل أن تجد مدرسة تتوفر على  كتب مدرسية ، اللهم إلا بضعة أعداد من مستويات مختلفة، وأولياء التلاميذ يشكون من انعدام الكتاب في أكشاك المعهد التربوي للبيع ، والمعهد نفسه يشكو من أن المطبعة المدرسية تعمل بكل طاقتها لمدة 24  ساعة في اليوم ، لكنها بالوضعية التقنية الحالية وبالمخصصات المالية ، لا يمكن أن توفر أكثر من 30% من الاحتياجات البالغة ثلاثة ملايين كتاب ، وبعد توفر هذا ستحتاج المطبعة إلى سحب  ثلث هذا العدد سنويا لتغطية زيادة التلاميذ السنوية ، وتعويض الكتب  التالفة سنويا أيضا .

الشق الثاني :إن وجد الكتاب المدرسي  فالمعلمون يحتاجون لتدريب مكثف على طريقة استعماله فالطريقة الحالية لاستعماله تفوت كثيرا من فرص الاستفادة منه، فمنذ تم إعداده لم يحظ المعلمون بأي نوع من التدريب على طريقة استخدامه كما مبرمجا ، و دليل المعلم الذي أعد ليرافق  المعلم  بعد التدريب ليساعده على  فهم  وتنمية قدراته في طرق وآليات تنفيذ ملفات كتاب التلميذ، لم يعرف طريقه إلى المعلمين حتى  اليوم ،علما  بأن كل كتاب تلميذ طبع بموازاته كتاب دليل للمعلم .

ضعف تكوين المعلمين وعدم مواكبته لاحتياجات المرحلة، وهذا الضعف ناتج عن التساهل في تطبيق شروط الولوج لمدارس التكوين  وتقادم طرق التكوين فيها بسبب ضعف التكوين الأصلي للمكونين وانعدام التكوين المستمر الذي يزودهم بمستجدات التربية باستمرار، إضافة إلى قلة الوسائل وانعدام الرقابة والمتابعة والتقويم  المؤدي إما للمكافئة أو للعقوبة مما يصيب المؤهلين منهم بالإحباط .

ضعف تأثير الجهاز الإداري الإشرافي والتأطيري ويتجلى الضعف في عدة مظاهر :

ضعف التكوين الأصلي وانعدام التكوين المستمر مع انعدام  الدافعية أيضا،  فحظوظ المتخلفين غالبا أحسن بكثير من حظوظ المتفانين في العمل، ذلك التفاني الذي يشغل صاحبه عن البحث بالطرق الملتوية عن الحصول على منافع ، فيصاب المجدون  بالإحباط عندما يرون حظوظ الكسلاء تصعد .

 عدم ترتيب إجراءات  تحسينية  على تشخيص أو مقترحات المشرف التربوي أو الإداري أو ترتيب مكافئة أو عقوبة على نتائج التقويم الذي يقوم به ، مما يفقد العمل  قيمته ومعناه ويجعله في نظر المشرفين مجرد هدر للطاقات والمال العمومي  بدون طائل .

انعدام الوسائل وخاصة وسائل التنقل فتعويض النقل لا يؤمن مصارف جولة  بين مدارس متقاربة  في الوسط الحضري أحرى مدارس مبعثرة في الوسط الريفي بدون طرق معبدة أحيانا ، و المفتشيات الجهوية وبعض الإدارات الجهوية بدون سيارات .

عدم التنسيق بين ما تقدمه المدرسة في مراحلها المختلفة واحتياجات المجتمع  وبينها واحتياجات السوق ومتطلبات التنمية ، وهو ما نجم عنه  تفاقم في أزمة البطالة التي تجعل الأهالي يعزفون عن مكابدة تعليم أبنائهم في ظروف غير مواتية  مادامت الدراسة بدون عائد عليهم مستقبلا فحظهم في التوظيف  لن يكون أحسن من آلاف الخريجين العاطلين .

كما يؤدي من  جهة أخرى إلى عدم إمكانية تأهيل ما يربوا على  50%من طلابنا الذين لم يحالفهم الحظ في مواصلة تعليمهم .

أخيرا أبشركم ومن موقع العارف بهذا القطاع أن إصلاحه ليس صعبا ولا مستحيلا كما يصوره البعض ، لكنه يحتاج للتركيز على نقاط  عادة لا تخطر بداهة على بال  القيمين على الإصلاحات، فالرصيد الحالي رغم نواقصه  يمكن التأسيس  عليه والبناء ، مع بعض اللمسات التحسينية هنا وهناك ، لكن يجب :

الانطلاق  في التطبيق من الأسفل باتجاه الأعلى ، من القسم كوحدة لبناء المعرفة ثم من المدرسة كوحدة للتنظيم التربوي و الإداري، ضمن إطار خطة عامة  مرنة تأخذ في الحسبان كل الإبعاد التربوية والتنموية بتدرج  تصاحبه المتابعة والتقويم  والتعديل  في الوقت المناسب.

إرساء معايير موضوعية وعادلة تحكم تسيير القطاع  و الأخذ بمبدأ المكافئة والعقوبة دون هوادة.

تدريس المواد بلغة قد حصل التلاميذ سلفا منها على رصيد يسمح له بفهم المادة المدروسة بواسطتها ، فكما يقول المحضريون لا يمكن جمع    (ذهابتين) في وقت واحد ، مادة مجهولة يراد تقديمها بطريقة تمكن التلميذ من استيعابها والقدرة على تحويلها  ، ووسيلة التعبير والشرح هي لغة لا يفهمها ، عقليا هذه عملية سيزيفية ، و التجربة أثبتت أن التلميذ لم يكتسب علما بواسطتها ولن يكتسبه  ما لم تتغير الوضعية ، و لا داعي للمكابرة  بعد التجربة .

تهيئة المعلمين والمؤطرين  نفسيا لتجديد الطرق المتبعة وتشجيعهم على التعلم الذاتي ونبذ الكسل؛ولن يكون ذلك كله منتجا ما لم تتم  مراعاة الحالة النفسية لعمال القطاع المحبطين منذ عقدين من الزمن،  فما لم  يحسوا بتغير الأحوال عمليا لصالح عدم تهميشهم وإقصائهم ، وما لم  يشعروا برضا وظيفي يحرر طاقاتهم من محبسها فلن يحصل تقدم .

فالرضا الوظيفي هو ترجمة لإحساس الموظف بالحصول على ما يضمن له العيش الكريم في مستواه الوظيفي، إحساسه بالطمأنينة  للتسيير العادل لمؤسسته ، و بالأمن الوظيفي فيها ، فهذا الإحساس يحدث اندماجا نفسيا بين العامل ومؤسسته  فيدفعه للتضحية من أجل مصلحتها وتعويض نواقصها، وهذا هو ما يحتاجه أي مشروع يتوق مسيروه للنجاح.

وفقنا الله وإياكم لما فيه خير العباد والبلاد

 

 

------------------------

 

إعداد :د.البتول عبد الحي رئيسة لجنة التربية والتعليم والبحث العلمي باتحاد قيادات المرأة بجامعة الدول العربية

مفتشة مكلفة بالتعليم الأساسي ومدارس المعلمين، ومؤلفة كتب مدرسية ب( م.ت .و) سابقا.