قرار تقسيم فلسطين لم يسقط الهوية والانتماء الوطني الفلسطيني!

اثنين, 02/12/2019 - 21:59

مصطفى قطبي  - المغرب (خاص/ التواصل)

صادفتنا الأيام الأخيرة من شهر تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، عدة مناسبات، حيث شهد هذا الشهر عبر عدة عقود محطات كبرى بدأت بتصريح بلفور في الثاني من نوفمبر عام 1919 وبعد ذلك بثلاثين عاماً و27 يوماً صدر قرار تقسيم فلسطين في التاسع والعشرين من نوفمبر 1947، وبذلك تكون العلاقة بين الحدثين علاقة عضوية.

بالطبع، ما حدث ضمن كواليس الأمم المتحدة، قبل قرار تقسيم فلسطين، ظل فترة طويلة، مدعاة للثرثرة والتخمينات، لكنه كان قراراً أممياً، أهدر حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره، وهو حق قانوني للشعوب الواقعة تحت الانتداب، كالشعب الفلسطيني، وانتقص من حق العودة، الذي هو حق فردي وجماعي في آن معاً، ثابت لا يزول بالتقادم، ومحصّن بعدم أحقية أي طرف بالتنازل عن هذا الحق. وعلى الرغم مما سبق ورافق وأعقب هذا القرار الأممي، حتى اليوم، من مظالم ومجازر وتجاوزات مروّعة، ارتكبت بحق العرب الفلسطينيين أولاً، ثم بحق سواهم من عرب، تحت سمع العالم وبصره، وعلى الرغم مما أعقبه أيضاً من تقاعس مقصود وفاضح، حيال التطبيق المبتور لهذا القرار، حيث ظهرت إسرائيل إلى الوجود، وفّر لها الغرب، سراً وعلناً، بدءاً من بريطانيا وفرنسا، ومن ثم الولايات المتحدة، جميع شروط الحياة والقوة والتفوق والتوسع وحتى الاستعلاء، فيما الدولة الفلسطينية، المقررة أممياً، لا تزال حتى اليوم مغيّبة تغييباً مقصوداً ومطلقاً، بفعل ابتلاع الكيان الصهيوني للأرض التي كانت مقررة لها من جهة، وبفعل دعم غربي مطلق وغير مشروط، وتغطية سافلة لتجاوزاتها المتواصلة.

ومن واجب الأجيال الجديدة أن تقرأ خلفيات القرار وتفاصيل القرار الصادر من الجمعية العامة للأمم المتحدة في 29 نوفمبر عام 1947. القرار الذي حمل الرقم 181 أعطى بموجبه 42.3 بالمائة من فلسطين للفلسطينيين و57.7 بالمائة من فلسطين لليهود رغم التفاوت في نوع الأراضي وتوّفر المياه لمصلحة الدولة اليهودية طبعاً. على حين نصّت الفقرة الثالثة منه على أن القدس وبيت لحم والأراضي المجاورة، تحت وصاية دولية.

وقد ظل هذا اليوم ذكرى للنواح العربي مدة طويلة حدث فيها تراجع المشروع العربي وتقدم المشروع الصهيوني فحاولت القيادة الفلسطينية أن تدرك ما تبقى فاضطرت إلى القبول بقرار التقسيم وذلك في قرار شهير أصدره المجلس الوطني الفلسطيني في دورته في الجزائر في 15 نوفمبر 1988 في وقت كان العالم العربي قد بدأ يتهيأ للتخلي عن القضية الفلسطينية.

ومن الواضح أن اعتراف الفلسطينيين بقرار التقسيم قد أدى إلى تصدع الصف الفلسطيني الذي كان مجمعاً على استرداد كل فلسطين أو ما يسمى فلسطين التاريخية من النهر إلى البحر وظهر في ذلك الوقت عدة إشكاليات في العمل الفلسطيني، الأول هل يصر الفلسطينيون على هذا المطلب بينما أوراق اللعبة والقوى تتآكل في أيديهم أم يتجهون إلى الواقعية بخاصة وأن التراجع العربي كان سريعاً وأن إسرائيل قد وضعت مشروعها على الطريق إلى الاكتمال وأن العرب يقرون ذلك سرا ولكنهم يرفعون الشعارات الرنانة علنا. ثم انعقد مؤتمر مدريد بعد تحرير الكويت ودشن عملية السلام ستارا للتراجع العربي، ثم أفضى ذلك إلى أوسلو في الثالث عشر من سبتمبر 1993 الذي شهد عليه العرب وروسيا وأمريكا فلم يعد هناك مفر من أن يتراجع العرب إلى مساحات جديدة أمام تقدم إسرائيل، ثم فكروا في تحديد الموقف العربي بشكل رسمي بمبادرة السلام العربية في قمة بيروت العربية عام 2002 بينما كان عرفات محاصراً في مقره في رام الله ينتظر مصيره المحتوم بعد ذلك بثلاث سنوات 2005.

اليوم وبعد 72 عاماً من كلّ المتغيرات الإقليمية والعربيّة والفلسطينية والدولية قد يكون من المفيد، أو من الضروري، ربما، إجراء مراجعة سريعة للفرق بين الأمس واليوم ومحاولة استشراف مسار الأحداث في المستقبل القريب والمتوسط. علّ أهم ما يميّز هذه الذكرى لتقسيم فلسطين هو الانقسامات الحادة بين الفلسطينيين أنفسهم من جهة وسرعة عربة التطبيع بين الكيان الصهيوني وبعض الدول العربيّة من جهة أخرى، وهذان الأمران متقاطعان ويتركان أثراً بالغاً في مستقبل الصراع وفي المآل الذي يمكن أن تؤول إليه الأمور في منطقتنا والعالم. فأمّا بالنسبة للانقسامات والشرذمة التي نشهدها في صفوف الفلسطينيين، فإن هذه هي أخطر ما أضعف القضية الفلسطينية في نظر أهلها والعالم.

إذ ما زال العالم الصديق والخصم يتابع سلطات تحت الاحتلال تتنازع على شرعية وهمية وحركات مقاومة يفقدها الزمن عوامل التمويل والقوّة، هذا عدا حرب إعلاميّة غير مسبوقة تقلب الأمور رأساً على عقب في أعين وعقول المشاهدين والمتابعين. ويتزامن مع هذا كلّه تغيير جوهري في الإستراتيجية الإسرائيلية والتي كانت، ولو ظاهرياً ومنذ قرار التقسيم، تدّعي الحرص على حلّ الصراع العربيّ الإسرائيلي من خلال حلّ معضلة فلسطين، هذا التغيير الذي يركّز اليوم على التطبيع وتعزيز العلاقات مع دول عربيّة وإهمال الملف الفلسطيني على اعتبار أن التطبيع مع العرب «سيوفر حلاً للمشكلة الفلسطينية»، كما أسماها نتنياهو بدلاً من الاعتقاد الذي كان سائداً «أنّنا إذا قمنا بحل المشكلة الفلسطينية، فإن ذلك سيفتح الباب أمام علاقات أفضل مع العالم العربيّ».

إذاً بالنسبة لرئيس وزراء العدو هناك مشكلة فلسطينية، وقد تغيّرت المقاربة تجاه هذه المشكلة، فلا تطبيق قرار التقسيم ولا إنشاء دولة فلسطينية هو الحل بل التطبيع مع العرب في زمن يعلن فيه نتنياهو «أنّ لدى إسرائيل علاقات قوية بالعالم العربيّ المعتدل، وهي علاقات تشهد تحوّلاً، غير مسبوق، ومنها دول رئيسية تدرك أكثر فأكثر ما قيمة العلاقات مع إسرائيل». ومع تسارع هذا التوجه يزداد الغرور والتعنت الإسرائيليان ويسود الاعتقاد أن هذه الهرولة للتطبيع هي نتاج تميّز هذا العدو وانبهار المطبعين بإنجازاته وفرادته ومكامن قوّته، ويختفي نهائياً أي حديث أو حتى إشارة إلى الحقوق وأصحاب الأرض والظلم التاريخي الذي لحق بهم وحتمية قيام الأجيال برفع هذا الظلم عن كاهل الآباء والأجداد.

وفي نظرة أعمّ وأشمل على هذا الصراع وعلى مجريات الأحداث في المنطقة والعالم نلمس مؤشرات تفاعل قضية فلسطين المحقّة مع الحركات والمجتمعات في العالم وتأثير هذه القضية المتنامي على مستقبل هذه المجتمعات بشكل مباشر أو غير مباشر. إذ إن الدراسات الموضوعية تظهر حجم حركات المقاطعة للكيان الصهيوني في أوروبا والعالم وتنامي التأييد لعدالة القضية الفلسطينية في الأوساط الأكاديمية الغربيّة وانكشاف المستور بالنسبة لعنصرية الكيان الصهيوني وخططه السوداء في المنطقة والعالم، الأمر الذي يعبّرون عنه بتنامي اللاسامية، ولكنّه في الواقع تنامي الشعور بتأييد العدالة من أجل فلسطين والفلسطينيين.
والمشكلة الجوهرية في تفكير حكّام الكيان الصهيوني هي أنهم عنصريون ويعتقدون بتفوقهم على كلّ العناصر البشرية كائنة من كانت، ولذلك فإن الذي يقود مسارهم هو الغرور ولم ينجح الغرور أبداً في أي مرحلة من التاريخ أو في أي بقعة من العالم. وعلّ هذا السراب الذي يبنون عليه سينكشف لهم بأنّه أوهن بكثير ممّا يظنون، لأن قوّة الشعوب وإيمانها بالعدالة هي التي حكمت مسار التاريخ في كلّ أنحاء المعمورة.

والسؤال الذي يتعلق بمصير فلسطين في هذه الذكرى: هل نظل نكرر النواح كل عام على ما مضى وتم اقتضامه من فلسطين بصور مختلفة وهل هناك أمل في استعادة العرب لمساندة القضية؟

لقد ثبت وبشكل لا لبس فيه أننا إن لم نتعامل مع هذا اليوم ومفاهيمه وخلفيته بطريقة صحيحة ومدروسة وبإرادة قوية فإننا لن نستفيد من هذا اليوم ولن تؤدي كل المظاهر التضامنية على إيجابيتها المعنوية والدعائية إلى استعادة أي من حقوقنا المغتصبة. المرحلة تحتاج لوعي المسألة وتعقيداتها التي تفرض علينا استنفار كل قوتنا لمواجهة عدو قوي تسنده قوى كبرى لا يمكن هزيمتها إلا بذلك الاستنفار وبتلك الإرادة.

ثمة جملة من الثغرات الواجب سدها حتى نصل إلى مرحلة الاستعداد لخوض معاركنا بنجاح واقتدار، ومنها الانقسام الذي يكذب كل ادعاء لقائد أو فصيل حرصه على القضية واستعادة الحقوق، كذلك توجد ثغرة كبرى في الثقافة الوطنية والمفاهيم حتى ليكاد المرء يقرأ ويسمع الخيانات والتفريط ترفع شعاراتها وتتلى على مسامعنا بوقاحة وكأن أصحابها يرفعون لواء الكفاح المسلح والاستشهاد. وتواجهنا ثغرة كبيرة في موضوع التكتيك والرؤية السياسية في التعامل مع العدو ومع حلفائه، لابد من خوض المعركة السياسية والدعائية بحزم أكبر ومرونة موزونة تكسب الرأي العام دون تفريط أو تذلل أو شطط وهذه تحتاج لمراجعة كل النهج التفاوضي لمنظمة التحرير على مدار العقود الثلاثة الماضية.

خلاصة الكلام: إن قوة الكيان الصهيوني بُنيت على الضعف الرسمي العربي وانغراس القطرية العربية ومجافاة حقائق الواقع، من خلال وهم البعض ''باقتصار خطر المشروع الصهيوني على حلقته الفلسطينية''.

تبقى الحقيقة الأخيرة وهي: لابد من تشكيل اصطفاف وطني ومجتمعي ليكون حاضنة للمصالحة ومواجهة كل محاولات تعطيلها، كخطوة تعبّد الطريق أمام تجسيد الوحدة الوطنية الحقيقية، وإعادة بناء المشروع الوطني الشامل على أسس كفاحية ووطنية مقاومة، ومواجهة المخططات والمشاريع التصفوية التي تستهدف القضية الفلسطينية. ولابد من دفن مشروع التسوية الإسرائيلية ـ الفلسطينية التي تعمل عليها الإدارة الأميركية الحالية. فملامح هذا المشروع باتت واضحة ومعروفة حيث يتم الإعداد لطبخ مشروع سياسي عبر الحل الإقليمي، أو ما يسمى بصفقة القرن، يقوم على التطبيع وخلق تحالفات ما بين الدول العربية الرجعية والكيان الصهيوني بالمعنى الاستراتيجي في مواجهة المقاومة ودول الممانعة واستثمار القضية الفلسطينية كبوابة لتمرير هذا المشروع، والانقضاض على المقاومة وسلاحها. وهذا  المشروع الخطير لا يعطي حتى الحد الأدنى من حقوق الشعب الفلسطيني، مما يستوجب مواجهته وطنياً وإفشاله من خلال المضي قدماً بالمصالحة والوحدة الوطنية والتمسك بمقاومة وثوابت الشعب الفلسطيني.