موريتانياَ .. في ضرورة تعجيل الإصلاحات المؤسسية قبل وصول أموال الغاز

جمعة, 02/08/2019 - 13:44
الدكتور اسلم ولد بيه، أستاذ مبرز في الاقتصاد، جامعة باريس الأولى- سوربون

في هذا اليوم، فاتح أغشت 2019، سيعيش الموريتانيون حدثا غير مسبوق في تاريخهم السياسي هو تبادل السلطة بين رئيسين منتخبين. لقد فاز السيد محمد ولد الشيخ الغزواني، في الشوط الأول من انتخابات 22 يونيو الماضي، ب 52% من أصوات الناخبين، مدعوما من طرف الأغلبية التي كانت تدعم الرئيس المنتهية ولايته.
وهو يحكم، مستنداً إلى هذه الأغلبية المطلقة، سيجد الرئيس المنتخب من واجبه مجابهة الصعوبات الاقتصادية والاجتماعية التي يعرفها البلد. ذلك أنه، رغم التقدم المحقق في السنوات الماضية، يظل الفقر المدقع يعض ما يناهز 75% السكان طبقا لتقرير للأمم المتحدة، صدر قبل عامين . ولذاَ نرى أن على السياسات العمومية خلال الأعوام القادمة أن تكون أكثر إدماجاً، لتتفادى البلاد خطر الانفجار الاجتماعي.
يظهر من متابعة الخطب التي ألقاها خلا ل حملته الانتخابية والتمعن في برنامجه المفصل، أن هذاَ الرئيس، قدر التحديات التي تنتظره، حق قدرها. لقد ذكر أكثر من مرة إصلاح التعليم والصحة وضرورة التمييز الإيجابي لصالح أكثر الفئات هشاشة. كما ذكر محاربة الفساد وسوء التدبير, بل وتكلم أيضاً عن إنشاء شبكة أمان اجتماعي حقيقية. لكن، هل ستكون لهذا الرئيس القدرة على تنفيذ تلك الاصلاحات الطموحة التي وعد بها؟ تريد هذه المساهمة المختصرة تسليط الضوء على عدد من المآزق التنظيمية التي قد تهدد هذا الطموح الإصلاحي، ثم تطرح الخطوط الأولية لبعض الحلول للخروج من تلك المآزق.
إدارة غير ناجعة.
نعرف اليوم، بفضل الأعمال الكثيرة حول اقتصاد المؤسسات، أن النمو الاقتصادي غير ممكن إلا إذاَ وجدت ّ"مؤسسات" مناسبة. وبالمؤسسات، يعني الاقتصاديون في الآن نفسه المعايير والقيم غير المصنفة ("العادات الذهنية" لعالم الاقتصاد الامريكي Veblen) كما يعنون بها كذلك المعايير المقننة (النصوص القانونية، التقاليد، ...الخ). لذا يمكننا القول، مثلاً، إن احترام قانون الملكية وسهولة إنشاء الشركات وانسيابية المعاملات الادارية، عوامل جد مساعدة في عملية الإقلاع الاقتصادي. ومن هذا المنظور، مازال الطريق طويلاً أمام موريتانياَ فمؤشر" doing business" الذي يصدره البنك الدولي لتقييم مناخ الأعمال، يجعل موريتانيا في المرتبة 148 من مجموع الدول المدروسة، البالغ 190. وبخصوص المظهر الآخر من المؤسسات أي "العادات الذهنية" أو بصيغة أخرى قواعد اللعبة الاجتماعية التي يستبطنها الأفراد، ربما يمكننا أن نذكر، ضمن كثير من العادات التي تكبح النمو الاقتصادي، معيار "التشبشيب" وهي كلمة مبهمة الأصل وفضفاضة يمكننا ترجمتهاَ إجرائياً ب "سعة الحيلة" ولنقل إنها القدرة على ابتكار الحلول دون التشبث الدائم بما تمليه القوانين و القيم. وهذاَ "التشبشيب" الذي سبق للباحث في العلوم السياسية، زكريا احمد سالم أن درسه، يبرز القدرة ، المثمنة اجتماعياً، على إيجاد فرص للاغتناء أو لمجرد العيش، بالسرقات وعمليات الاستيلاء غير الشرعي على الأراضي و الرشوة والغش...غالباً... الخ.
بعد بنيوي آخر، ربما يهدد بتعطيل الإصلاحات المنتظرة، هو وجود جهاز إداري ضخم وغير ناجع. في بلد يطغى الاقتصاد غير المصنف وتكون فرص العمل في القطاع الخاص محدودة، يكبر الطلب على الوظائف الحكومية لما تضمنه من دخل قار. وهذا ما يجعل التنافس عليها كبيراً. ولذا يصبح توزيع الوظائف، على كل المستويات، رهاناً سياسيا يتبع احياناً موازين القوة الاجتماعية والولاءات للنظام، أكثر مما يتبع معيار كفاءات المترشحين. وينتج هذاَ المنهج في التوزيع، في غالب أحواله، جهازاً إدارياً، متورما وغير كفء.
حق الرقابة الديمقراطية
إضافة، إذن، إلى الإصلاحات الضرورية التي يتكلم الناس عنهاَ غالباً كتلك المطلوبة في قطاعات التعليم والصحة وزيادة الدخول الاجتماعية فإن المآزق التنظيمية المذكورة آنفاً هي، بلا شك، التحدي الرئيس للحكم الجديد. يتعين أن يكون إصلاح القضاء لجعله أتم استقلالا وأكبر نجاعة، من أوائل أولويات الفترة الرئاسية القادمة. إن هذا الاصلاح هو الوسيلة الأكثر بداهة لتشجيع ريادة الأعمال وتحسين جاذبية البلاد. إن الفساد في البلدان الفقيرة، كما يظهره تقرير لصندوق النقد الدولي نشرته Fiscal Monitor في ابريل 2019، هو في أكثر الأحيان "جريمة حساب" مفكر فيها، مخطط لهاَ وليس "جريمة عاطفة" وليدة لحظة انفعال أو نزق. إن الفاسد، في تقييمه للمخاطر، يضع في اعتباره، غالباً، ما سيناله قطعا من حماية (قبلية، سياسية، إثنية أو غير ذلك) إذا هو أخذ بالجرم المشهود. وبالتالي فهو، حين يمارس مفاسده، يضع في تقييمه لمخاطرها، أن العدالة لن تنال منه. إن استقلال القضاء، إذن، وسيلة ناجعة في مكافحة الفساد وبالتالي فهي ناجعة في آخر المطاف لتحسين أداء الإدارة.
جانب آخر من جوانب الإصلاح الإداري المطلوب، هو فرض الشفافية في كل مستويات الجهاز الإداري (الهياكل التنظيمية للإدارات، عمليات الاكتتاب، منح الصفقات العمومية، القروض...). ويمكن لتكثيف استخدام الأدوات الرقمية ودعم الصحافة الحرة أن يساهماَ في إنجاح هذا الطموح إلى الشفافية. ولما كانت بعض الإدارات ما تزال، حتى اليوم، دون مواقع الكترونية أو ذات مواقع سيئة التنظيم والتصميم، لا يمكن الوصول إليها غالبا ولا تحين مضامينها إلا نادراً، وجب العمل على تلافي هذا النقص المضر بفرص الشفافية والرقابة الديمقراطية. يجب أن يكون بإمكان المواطنين والجمعيات والصحافة الولوج إلى منصات شفافة، تعرض معلومات دقيقة تحدث أولا بأول، ليتمكن كل المواطنين من ممارسة حق مهم من حقوقهم هو حق الرقابة الديمقراطية.
ومما يتعين كذلك على السلطات الجديدة أن تحاربه دون تأخر، تلك "العادات الذهنية" المختلة والمخلة المذكورة أنفاً. ولعل مما ينفع في ذلك، التنفير منهاَ عبر تعبئة كل الفاعلين المؤثرين ومنهم تمثيلاً لاَ حصراً: (الإدارات، الهيئات الدولية، الجمعيات، المثقفون، رجال الدين، وسائل الإعلام، الفنانون الخ...). وباستقامة المسؤولين في كل مستويات السلطة التنفيذية وبعدهم عن الشبهات يمكن للعقليات أن تتطور رويداً رويداً نحو ممارسات أكثر ملاءمة للتنمية.
الإصلاح بسرعة قبل أموال الغاز.
من البديهي أن هذه الحلول الأولية المقترحة تحتاج تعميقا وتوسعا لاَ يتيحه المجال هناَ. ولكن الأمر ملح. بعد ثلاث سنوات أي سنة 2022، يبدو البلد موعوداً بأن يصبح قوة غازية على المستوى الإفريقي. غير أن أخطار ''لعنات الثروات الأحفورية" وهي "لعنات" جد موثقة، ستكون أكثر احتمالا إذاَ لم تقم الدولة الموريتانية بالإصلاحات الهيكلية الضرورية وفي الوقت المناسب. إن جمهورية التشاد التي تصدر النفط منذ 2003، تعرف منذ 15 عاماً تزايداً في أوجه عدم المساواة بين أبنائها وتبديداً لدخلهاَ من البترول بل وتجد نفسها اليوم مجبرة على الاستنجاد بالممولين الدوليين بسبب تهاوي أسعار النفط وضعف تنوع الاقتصاد. وسبب هذا كله أنهاَ لم تقم بتلك الاصلاحات المؤسسية. وهذا مثال يجب العمل، دون تردد، على تجنبه.
يبدو أن للرئيس المنتخب رغبة حقيقية في إصلاح البلاد ولذاَ فقد يتعين عليه مواجهة قوى معرقلة متعددة حاولناَ توصيفها آنفاً. وهي رغم دورها المثبط، ليست قدراً مقدوراً. لقد برهنت دول افريقية أخرى (المغرب، رواندا) على أن من الممكن إيجاد طريق آخر لتنمية اقتصادية، معتبرة، رغم ماَ قد يؤخذ عليهاَ من وجوه النقص والقصور. وإنماَ تحتاج الدول للسير في هذا الطريق إلى قادة ذوي رؤىً ومشاريع حضارية لبلدانهم. ومن هنا الأمل في موريتانياَ، اليوم.

لمراجعة المقال في موقع جريدة Le monde الفرنسية، اضغط على الرابط التالي:
https://www.lemonde.fr/afrique/article/2019/08/01/en-mauritanie-il-y-a-u...