القوة الخشنة للثقافة .. الخاصية الفلسطينية

اثنين, 14/01/2019 - 23:42

حسن العاصي / كاتب وباحث فلسطيني مقيم في الدانمرك (خاص/ التواصل)

لا يمكن مقاربة إشكاليات فهم وتحليل علاقة الهوية بالتحديات المصيرية للأمم، دون تحديد أية هوية ثقافية قادرة على تجاوز هذا الانحدار الفكري والسياسي، والنكوص التاريخي والسقوط الشامل، ومن غير توضيح الاختلاط والإبهام الثقافي والمعرفي، وكيف تتمكن الثقافة من بناء أدواتها لتجاوز المأزق الراهن وإنهاء الانسداد.

في الخاصية الفلسطينية، تظهر الثقافة بمضامينها المتعددة والمتشابكة، بمقدمة جبهة المواجهة ضد المستعمر الغربي والصهيوني، الذي سعى -وما زال- إلى اجتثاث الشعب الفلسطيني من أرضه، وطمس هويته وتزييف تاريخه وتبديد ثقافته. لهذا خاضت الثقافة مواجهاتها بأسلحة الفكر والأدب والفن الذي كان المثقفين أبرز حوامل مكوناته.

التشتت هو سمة الحالة الفلسطينية بعد النكبة الكبرى، وهو ما لم يسهم في إنتاج فكري ثقافي معرفي تراكمي ضمن بيئة مترابطة موحدة.

غاب المشروع الثقافي الشامل فلسطينيا، شأن غيابه عربياً، ولم تتمكن القوى السياسية الفلسطينية من التمييز بين الإنتاج المعرفي والإبداعي، وبين العمل السياسي والحزبي، فلم تتبلور حركة ثقافية منفصلة عن الواجهة السياسية، وبذلك فقدت الثقافة مهمتها في إحداث دافع لتقدم المجتمع، وخسر المثقف الفلسطيني دوره الموضوعي في خضم الأولويات السياسية. فتداخلت السياسة بالحزبية بالثقافة، وسقط المشروع السياسي في إيجاد مقاربات ثقافية، وأصبح بعض المثقفين رجال سياسة، فلم يربح أي منهما. خسرت السياسة فكر المثقف، وخسرت الثقافة محرضها الأبرز. وفقد المثقف مكانته وملامحه

بطبيعة الحال لم يعد -بظني- للمثقف الطليعي العضوي المشتبك الدور الطليعي والمؤثر، لقد انتهب مرحلة غسان كنفاني وناجي العلي وكمال ناصر وسواهم. وهذا ما ينطبق على النخب الثقافية العربية، والفلسطينية إلى حد ما، حيث تسَلَطَ السياسي الفلسطيني الحزبي على المشهد الثقافي، فالفصائل الفلسطينية استخدمت المثقف في السياق الأيديولوجي والخطاب الحزبي، ثم في فترة الكساد الثوري أصبح المثقف الفلسطيني سلعة فائضة عن الحاجة. تماماً كما تم تدجين وتطويع المثقف والمفكر العربي الذي همشته الأنظمة العربية وقوضت مكامن قوته.

حين تغيب الثقافة تحضر السياسة والانتماءات الحزبية، ويحضر التنافس والتناحر، وهذا ما فعلته الفصائل الفلسطينية. وفي انصراف المثقفين الحقيقيين يمتلئ الميدان بالمدّعين والجهلاء، وحين تختفي الشعارات والأهداف والمهام الكبرى ينشغل الفكر بنفسه وتنقسم الثقافة على ذاتها في معركة تتسبب بشقاء الجميع.

تلازم الثقافي والسياسي

يمكننا القول إن المشروع الثقافي الفلسطيني قد تلازم مع بدء المشروع الوطني التحرري الفلسطيني في ستينيات القرن العشرين. كان أشبه بشجرة قزحية تمتد أغصانها وتتشعب وتتلون، فتضمنت الثقافة الفلسطينية الأدبيات والأفكار القومية العربية البعثية والناصرية، والأفكار الليبرالية واليسارية، وكذلك أدبيات الموروث العربي الإسلامي والمسيحي. وخلال ستة عقود الماضية تأثرت الثقافة الفلسطينية بكافة العوامل التي حكمت المشروع الوطني السياسي، نهوضاً وركوداً ونكوصاً، فكان العامل السياسي عنصراً محدداً ومقرراً لفرض مناخات ثقافية تتسق مع طبيعة المرحلة، لذلك لا يمكن التحدث هنا عن مشروع ثقافي واحد.

إن المشروع الثقافي الفلسطيني الذي انطلق مع العمل الوطني التحرري الفلسطيني ضد العدو الصهيوني، وترافق مع إنشاء منظمة التحرير الفلسطينية، كان مشروعاً ثقافياً وطنياً شاملاً، تمكن من احتواء الكتاب والمفكرين والمثقفين والمبدعين والصحفيين والأدباء والسينمائيين والمسرحيين والتشكيليين والفنانين الفلسطينيين، وتأطيرهم باتحادات وهيئات ومراكز أبحاث ودراسات ونشر، رعت الثقافة والمثقفين، واجتهد الجميع في إطار المشروع الثقافي السياسي الوطني التحرري الأخلاقي العادل، بهدف تحقيق أحلام الشعب الفلسطيني في استعادة حقوقه في التحرير والعودة وإقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس الشريف. وفي هذا المشروع الثقافي الفلسطيني تلازم الثقافي والسياسي جنباً إلى جنب في وحدة جدلية تكاملية ميزّت الحالة الفلسطينية عن مثيلاتها عربياً.

بعد خروج قوات الثورة الفلسطينية من بيروت العام 1982 أصيب المشروع الثقافي الفلسطيني بانتكاسة، وبدأت مرحلة جديدة في المشروع الوطني الفلسطيني، حيث تم فيها إضعاف منظمة التحرير الفلسطينية ومؤسساتها بما في ذلك الاتحادات والهيئات الثقافية الجامعة. وفي بداية التسعينيات من القرن العشرين دخل المشروع الوطني السياسي الفلسطيني مرحلة جديدة عنوانها الأبرز اتفاقية أوسلو،وبدأت معها تتفكك روافع الثقافة الوطنية الفلسطينية وتتقوض أعمدتها التي ترتكز أساساً على الإنسان والأرض وقيم الحرية والاستقلال، وأصيب المشروع الثقافي الفلسطيني بخلل وعلل بنيوية وتم تهميشه وتحجيم دوره التاريخي، مما أدى إلى حالة بغيضة من التمزق والانقسام والضعف والتخندق بين المثقفين الفلسطينيين وبين السياسيين، وبينهم وبين أنفسهم من جهة أخرى.

ثقافة المرحلة

ولنا أن نتساءل ماذا بقي لنا من المشروع الثقافي الوطني الفلسطيني، بعد الانزياح والاخفاقات التي أصابت المشروع الوطني التحرري الفلسطيني خلال العقود الماضية؟

لقد ظهرت ثقافة أصولية إسلامية تستمد أفكارها من الماضي، وفشلت في مقارباتها التي أجرتها، لأن الماضي زمن قد ولى، ولا يمكن معالجة إشكاليات الحاضر والإجابة على أسئلته الكبيرة بأيديولوجية وأدوات اندثرت. ثقافة أصولية ملأت الفراغ الذي أحدثه تهميش مؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية ومن ضمنها الهيئات والاتحادات الثقافية، وتراجع المشروع الوطني السياسي من جهة أخرى. إلى جانبها يوجد ثقافة ليبرالية خجولة منزوية ونخبوية. وثقافة ما بعد اتفاقيات أوسلو التي جنحت للسلم مع الصهاينة، وروجّت لثقافة السلام معلنة انتهاء ثقافة المقاومة العنيفة، وإن تبنت ثقافة المقاومة الشعبية بين حين وآخر، أو فرضت عليها من الشارع الفلسطيني، إلا أنها في مجملها ثقافة تراهن على قدرة المفاوض الفلسطيني، وليس على بندقيته ولا على حجره. وهناك ثقافة الانقسام والتفرد والتحكم والتسلط في بعض الأوساط السياسية والثقافية. أيضاً ظهور ثقافة العنف المجتمعي، اللفظي والجسدي والرمزي واللغوي. وجود ثقافة مُعولمة غريبة عن واقعنا تسعى لإعادة بناء خطاب ثقافي جديد.  وثقافة شعبية تستمد قوتها وحيويتها وتجددها من التصاقها بالناس أنفسهم وقدرتها على التعبير عن واقعهم ومعاناتهم وتطلعاتهم. ثقافة ترفض الاحتلال وتواجه طغيانه بأدواتها البسيطة. ثقافة فلسطينية تتعدد أوجهها ما بين المناطق التي تسيطر عليها السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية، ووجه ثقافي لقطاع غزة، وثقافة فلسطينية في مدينة القدس ومناطق الجليل الأعلى، التي تجاهد وتصارع ثقافة التهويد ومحاولات تفكيك هويتهم العربية من قبل إسرائيل. ثقافة فلسطينية في الشتات متنوعة ومتعددة ومتشابكة مع محيطها ومتأثرة بالثقافة الإنسانية.

تحديات فلسطينية

تظهر التحديات التي تواجه الثقافة الفلسطينية جلية في ظل ظروف غير طبيعية تحيط بالمثقف وبمجمل الشعب الفلسطيني منذ قرن من الزمن. لعل أهم هذه التحديات الحفاظ على الهوية الفلسطينية العربية الوطنية للإنسان والأرض والمكان، وصيانة ملامح هذه الهوية في وجه المخطط الصهيوني الذي يرمي إلى تبديدها وتفتيتها وتغييرها وتهويدها. وكذلك تعزيز اللغة العربية وحمايتها، وتعميق الانتماء الوطني في مواجهة الولاءات الحزبية والدينية والمناطقية، وتوطيد أواصر التلاحم الاجتماعي بين أبناء شعبنا الفلسطيني، وإعلاء قيم التكاتف والتعاضد ونشر ثقافة التضامن، وكذلك الحرص على احترام الآخر وحقه في الاختلاف، وتحقيق مبدأ التنوع من أجل تحقيق تناغم وحدوي عبر الالتفاف حول القيم التراثية الوطنية الأصيلة باعتبارها قاسماً مشتركاً لكافة الفلسطينيين. ومن التحديات التي تواجهها الثقافة الفلسطينية أيضاً قدرتها على مواجهة المشكلات الناجمة عن التطرف والغلو بكافة أوجهه الدينية والاجتماعية والفكرية، والعنصرية والتمييز، ومعالجة القضايا التعليمية والتربوية. ودور المثقفين في بناء مشروع ثقافي فلسطيني. وكذلك دعم وترشيد دور وسائل الإعلام، ووسائل التواصل الاجتماعي في الحفاظ على الثقافة الوطنية الأصيلة من الذوبان. كما أن من أبرز التحديات وضع خطة للإنتاج الثقافي الفلسطيني المستدام، وهي قضية في غاية الأهمية لتطوير الثقافة وتنشيطها ورفع مستوى حيويتها وأدائها، بما يكفل قيامها بواجبها ومسؤولياتها وتحقيق الأهداف المناطة بها في مواجهة ومقاربة الإشكاليات التي ما زالت تعترض درب النهوض الفلسطيني. ولابد من الاهتمام بالعلاقات مع الآخرين، وتعزيز الحوار مع كافة شرائح المجتمع الفلسطيني، وكافة القوى والأحزاب والمجموعات، وكافة التيارات السياسية الفكرية والأيديولوجية والفلسفية، وتعزيز التواصل مع الثقافة العربية، والانفتاح على الثقافات العالمية وعدم الانكفاء والانغلاق، والعمل على استكشاف آفاق للتعاون المشترك مع مكونات ثقافة الآخر الإنسانية للاستفادة منها في بناء مشروعنا الوطني والنهضوي.

مآلات ثقافية عربية
إن كانت الثقافة العربية والمثقفين العرب قد تعرضوا عبر عقود طويلة إلى تدجين وتطويع وتهميش من قبل الأنظمة السياسية التي استحوذت على كل شيء ووضعته في خدمة مصالحها وبطانتها. فإن الثقافة الفلسطينية أيضاً والمثقفين الفلسطينيين قد نالوا نصيبهم من هذه السياسات. وإن قدر لنا المقاربة سنجد أن الثقافة العربية ابتليت بعلل متعددة وعلق بها من الدرن ما يكفي لتشويه ملامحها، فتحولت من كونها ثقافة عربية إسلامية مسيحية قومية وحدوية يسهم فيها الأقليات من سكان المنطقة، إلى ثقافة قبلية عشائرية طائفية إثنية، متشددة تقوم على القطرية والحلقية والتعصب والتشدد والتطرف والعنصرية، ثقافة مبنية على الكراهية والإقصاء والاستحواذ والإنكار.

غاب التنوع الذي كان يثري الثقافة العربية، وأصبحت إما ثقافة استبدادية قمعية قهرية تمارسها معظم الأنظمة العربية ضد شعوبها. ثقافة تشجع الانفكاك من العنصر القومي العروبي الوحدوي، الابتعاد عن كل ما يجمعها مع عناصر الثقافة والهوية العربية، والانسحاب إلى الداخل نحو ثقافة قطرية ضيقة لكل بلد عربي لوحده. وإما ثقافة دينية متشددة ومتطرفة في مفاهيمها وخطابها وسلوكها، ثقافة تعتمد الإقصاء وعدم قبول الآخر، ثقافة سلفية مفتونة بالتاريخ ومنشغلة بالتراث، تحاول إحياء الماضي وهو رميم. وإما ثقافة انتقائية ومنفعية مصلحية لا مبادئ لدى أصحابها ولا قيم أخلاقية، يسعون خلف مصالحهم الشخصية الضيقة، ويلهثون لتحقيق العز والجاه أو المنصب أو الثروة، أو حتى كف شر السلطات السياسية والأمنية عنهم. ثقافة وصولية انتهازية التف حولها الزنادقة الجدد والمنافقين كما يلتف الذباب على قطعة حلوى. وانتشرت ثقافة القتل والحرق والتدمير وقطع الرقاب، وبناء مزيد من السجون، وفرض قوانين الطوارئ أو ما يشبهها. ثقافة عدم الانتماء والهروب من الأوطان. ظهور ثقافة الاستهلاك واجتياحها كافة مناحي الحياة، حيث غيرت المفاهيم لدى الإنسان العربي وبدّلت سلوكه واتجاهاته وثقافته العامة، وأصبحت الشعوب العربية عبيداً للأسواق والمكننة والتقنيات التكنولوجية.

دور مفقود

في ضوء ما تشهده المنطقة العربية من انزلاق خطير، إننا نتساءل عن دور المثقفين والمفكرين العرب في قضايا أمتهم المصيرية، وفي المقدمة منها القضية الفلسطينية. وما الذي يعيق توحيد جهودهم في مختلف مواقعهم وبلدانهم، وجمع كلمتهم لتوحيد موقف الشارع العربي وتصحيح اتجاهه، وتحريض الوعي الجمعي للشعوب العربية لاتخاذ مواقف مبدئية جادة وواضحة وقطعية من أم القضايا العربية فلسطين.

المثقفون وحدهم القادرون على إحداث هذه الرابطة الواسعة التي ينخرط فيها كافة شرائح المجتمعات العربية كل بتخصصه واهتمامه، لمواجهة هذا السقوط السياسي والفكري والثقافي والوطني المريع، والتصدي لما يسمى صفقة القرن التي تعتبر الأسوأ والأخطر على القضية الفلسطينية بعد فشل مشروعي مدريد وأوسلو. هذا المشروع الأمريكي الجديد لتسوية الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، يشكل كارثة في ظل الوضع الفلسطيني الداخلي الذي يعاني الانقسام السياسي، ووضع عربي مفتت وإقليمي ودولي أكثر سوءًا. مما يستوجب التصدي له ولتداعياته وأبعاده السياسية والاقتصادية والأمنية.

وعلى سبيل الذكر لا الحصر، ألا يجدر بالمثقفين والمفكرين العرب الوقوف إلى جانب القدس العاصمة الأبدية لدولة فلسطين، ودعم هوية هذه المدينة العربية المقدسة، ومؤازرة المقدسيين والدفاع عن حقوقهم في مدينتهم التي ضمنتها القوانين الدولية، وحماية تراثها الحضاري والإنساني وصون مقدساتها، وتنظيم حملات تضامنية حقيقية وفعلية ومستدامة مع الثقافة الفلسطينية المهددة، والضغط ما أمكن على الأنظمة العربية لتقوم بالحد الأدنى من واجبها في إسناد صمود القدس وأهلها بوسائل وأدوات متاحةلهم؟.

في هذا السياق فإن إقدام دولة الكويت الشقيقة على إطلاق اسم مدينة القدس عاصمة أبدية لفلسطين على الدورة الثالثة والأربعون لمعرض الكويت للكتاب، يشكل نموذجاً يحتذى.

استهداف وجودي

أسهم المفكرون والمثقفون الفلسطينيون بصورة لافتة في النهضة الثقافية والتعليمية في معظم الدول العربية، وقدمت أسماء فلسطينية عديدة خدمات جليلة لتطوير المشهد الثقافي والعلمي والفكري العربي، وهم كانوا ولا زالوا بمثابة رسل محبة وتآخي مع الأشقاء العرب، ولا يمكن إنكار الأثر الثقافي والعلمي والأخلاقي الذي تركوه في الدول العربية، الذي يجب توظيفه لتعميق روح التضامن والتآزر والأخوة ووحدة المصير.

فلسطين التي تعتبر منجماً ثقافياً وطنياً عربياً وتراثاً أثرياً ودينياً وإنسانياً، تستحق من المثقفين العرب ومن سواهم كل الاهتمام والدعم والمساندة، لتعزيز صمودها وثبات شعبها في وجه عمليات الاغتيال الممنهجة التي يتعرض له على يد الاحتلال الإسرائيلي، وبواسطة وكلاءها في الولايات المتحدة، حيث لأول مرة تقيم القومية اليهودية الصهيونية في البيتالأبيض بواسطة زوج ابنة الرئيس الأمريكي "كوشنير". ولأول مرة تتبنى إدارة أمريكية البرنامج السياسي الصهيوني كاملاً دون اعتراض.

لقد استهدفت إسرائيل الثقافة الفلسطينية والمثقفين الفلسطينيين منذ إنشاءها، وسعت للتخلص منهم وتحييد دورهم وتغييبهم، ودفن الثقافة الفلسطينية وحصارها ومنع تواصلها مع محيطها العربي، وكتمها عن الساحة الدولية. لذلك كان المثقفين والمفكرين الفلسطينيين على رأس قائمة الاستهداف الإسرائيلي، لإدراك الاحتلال أن هؤلاء يشكلون بثقافتهم ودورهم خطراً كبيراً، فقامت الأيادي الصهيونية السوداء باغتيال الشهداء: غسان كنفاني، وائل زعيتر، كمال ناصر، عز الدين القلق، ماجد أبو شرار، عبد الوهاب كيالي، حنا مقبل، ناجي العلي، وسواهم من شهداء الكلمة والثقافة والفكر، ومحاولة اغتيال الكاتب بسام أبو شريف، والمفكرأنيس صائغ وغيرهم.

ضمير الأمة المنفصل

تستمر المؤامرات والمخططات الإسرائيلية الساعية للقضاء على الحضارة التاريخية العريقة العربية الفلسطينية فوق أرض فلسطين، واستبدالها بأخرى غريبة وتزييف التاريخ والجغرافيا. وهنا يتضح دور المثقفين الهام جداً بنشر وتعزيز ثقافة المقاومة الشعبية في كل مدينة وقرية فلسطينية، والتصدي لفكرة الوطن البديل، وتحشيد الطاقات والجهود الفلسطينية في داخل فلسطين وخارجها، واستعادة الوحدة الوطنية وانتخاب قيادة فلسطينية تمثل جميع الفلسطينيين. 

اللافت إن الشارع الفلسطيني والعربي كان وما زال أسرع من المثقفين العرب في إعلان مواقفهم من قضايا الساعة، وكان الناس يتقدمون المثقفين والمفكرين في النزول إلى الشوارع لإبداء تضامنهم مع القضية الفلسطينية في المحطات التي صادفتها.

إن المثقفين هم صوت وضمير الأمة وأداتها الاستراتيجية، هم المعبرون عن الهوية والتاريخ والذاكرة، هم المحرك الرئيسي للشعوب وأهم فاعل ومبادر في مختلف القضايا. المثقفين الفلسطينيين وعدد من المثقفين العرب انخرطوا مبكراً في العمل الوطني النضالي الفلسطيني، وكانت لهم بصمات واضحة ومؤثرة في تاريخ القضية، وتمكنوا من وضع فلسطين في المكانة المرموقة التي تستحقها على الخارطة السياسية والثقافية العربية والعالمية.

على كاهل المثقفين العرب مهام أخرى منها مسؤولية المساهمة مع المثقفين والأدباء والمفكرين الفلسطينيين في فضح وتعرية الرواية الصهيونية التاريخية المزيفة، التي توظف منظومة إعلامية ضخمة وتساندها وسائل إعلام أمريكية وغربية، بهدف طمس الرواية الفلسطينية لأصحاب الأرض الحقيقيين، وتزوير تاريخهم وفبركة وقائع غير موجودة إلا في أذهان وأحلام الصهاينة، وبث الأكاذيب والادعاءات الباطلة، والتشكيك بالهوية العربية الفلسطينية للأماكن التاريخية والأثرية والدينية.

ومنها أيضاً ترجمة الأعمال الأدبية الفلسطينية إلى لغات عالمية متعددة، خاصة تلك التي تظهر حق الفلسطيني بأرضه، والتي تستند إلى وقائع تاريخية مثبتة، لمخاطبة الرأي العام العالمي والغربي، وتوضيح الحقائق وكشف الادعاءات الإسرائيلية بما لا يملكون، وحتى لا نظل كمن يحدث نفسه.أعلى النموذج

القوة الخشنة

الثقافة واحدة من أهم الأدوات المؤثرة للحفاظ على وجودنا ومقاومة الاحتلال الصهيوني الذي يسعى لتذويب الهوية الوطنية الفلسطينية والانتقال إلى مرحلة إنهائها.

فإن كانت ثقافة أي شعب تشكل عنصراً هاماً من هويته، فإن للثقافة الفلسطينية المحاصرة، شأنها شأن فلسطين ذاتها المحاصرة من الكيان الصهيوني ومن العرب، دوراً مضاعفاً في الحفاظ على الهوية الوطنية الفلسطينية من جهة، والحفاظ على مستوى إدراك الشعوب العربية بالقضية الفلسطينية وعدالتها والتفافهم حولها.

وللثقافة قدرة هامة على المقاومة التي نؤكد أن استمراها تواصلها وتعزيزها ضرورة قصوى تفرضها السياسات العدوانية العنصرية الإقصائية التي يتبعها العدو الصهيوني، الذي يهدد وجود الإنسان الفلسطيني فوق أرضه وثقافته وتاريخه وإرثه، ويحاصر كل شيء فوق الأرض في محاولة لاستحداث واقع جديد بقوة البطش والقتل والتاريخ المزيف. ويجهد هذا العدو إلى تحويل صراعه الوجودي والسياسي والوطني مع الشعب الفلسطيني إلى عناوين إنسانية هنا وهناك، بهدف تحجيم وتقزيم القضية الفلسطينية ثم شطبها، مما يستدعي استنفار الطاقات الكامنة في الشعب الفلسطيني وأمته العربية لمواجهة هذه المرحلة الخطيرة للغاية، وهنا تبرز الثقافة كأهم رافع لاستنهاض مقدرات الأمة.

من يطلع على الظروف البائسة التي يعيشه في كنفها الإنسان الفلسطيني الصابر والمحاصر والثابت في الأراضي الفلسطينية المحتلة، يدرك طبيعة مشقة الحياة والتوجع الذي يكابده الفلسطيني فوق أرضه وفي وطنه نتيجة الاحتلال. لذلك فإن الثقافة باعتبارها قوة ناعمة تتحول إلى قوة خشنة في النموذج الفلسطيني،وتصبح قوة ترعب العدو فلا بد من تحويلها إلى فعل مقاوم. ونشر وتطوير أدوات ثقافة المقاومة، والمقاومة الثقافية أيضاً للتصدي لثقافة الهيمنة والاحتلال. إن المقاومة الثقافية التي نشدد عليها هنا لدعم صمود الشعب الفلسطيني، واستمرارها وتواصلها، وعدم الانصياع للضغوط الصهيونية والغربية، هي ضرورة وطنية وواجباً قومياً وليست ترفاً ثقافياً كما يتصورها البعض، وليست نضالاً نخبوياً ناعماً.

أمام مفترق

في الظروف الراهنة بالغة التعقيد على قضيتنا الوطنية، علينا أن نسعى نحو ثقافة ترتقي بالإنسان الفلسطيني أينما تواجد. ثقافة قادرة على التصالح مع ذاتها ومع ماضيها وحاضرها ومع الآخر، وتتضمن إمكانية بناء مستقبلها. نحتاج إلى ثقافة واعية ومتجذرة تدرك مصالح وأهداف شعبنا الوطنية والسياسية. ثقافة تمتلك المقدرة على مواكبة التطورات التكنولوجية والثورة العلمية والمعرفية والمعلوماتية. الثقافة التي تراعي التعددية والتنافس لتحقيق الريادة والأهداف الوطنية والتنموية. فالثقافة الفلسطينية اليوم أمام مفترق حقيقي ومثقلة بإشكاليات حقيقية وموضوعية متعددة وشائكة، وتحتاج إلى التجدد لتكون قادرة على التواصل مع كافة المتغيرات التاريخية. يجب التوقف عن النظر إلى الثقافة على أنها فعلاً تجميلياً، أو عمراناً سياحياً، بل علينا أن ندرك أن الثقافة هي المحرك الحقيقي لكافة الأحداث السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية، وهي الحامي والحامل الأبرز للحقوق الثابتة والأهداف الوطنية الفلسطينية.